مدونات

المتعب في فكرة الفقد

نوفمبر 22, 2024

المتعب في فكرة الفقد

الكاتب: جواد نصير

 

 قد تتسلل فكرة فقدان أحد أبويك أو كليهما إلى عقلك، لكنك في تلك اللحظة تحاول الهروب لكي لا تشعر بوقعها على قلبك. فمجرد التفكير في الأمر واسترسالك فيه قد يجعل عقلك يجن. لكن ماذا لو حدث الأمر ووقفت أمام حقيقة أن أباك، مثلاً، قد غادر الحياة إلى جوار ربه؟ هذا ما حدث معي بالضبط!


تجربة الفقد تجعلك أمام مفترق طرق مظلم، تجد فيه نفسك تائه الأفكار والأحاسيس، لا تدري هل تشعر بالحزن في صمت قاتل أم تصرخ لتخرج كل القهر وعدم التصديق الذي بداخلك لكي تستمر في حياتك بشكل طبيعي.


 قد تحاول الاستيقاظ من هذا الحلم، وهو ليس بحلم، بل هو محاولة من عقلك ليرسم لك مسارًا وهميًا للتخفيف من وقع الصدمة التي لن تخرج منها إلا بمعية الله عز وجل وبفضله وكرمه.


 لا أخفيك، عزيزي القارئ، أنك ستمر بفترة صعبة، ستختبر فيها الاضطراب النفسي الذي يصيب النفس البشرية بعد الصدمة، وستكون تلك الفترة محطة مفصلية لكتابة فصل جديد من حياتك.


 ستتغير معالم شخصيتك ونظرتك للأحداث، وسترى الحياة من منظور أوسع. ستكتشف أن النعم التي كنت لا تحسن بوجودها من قبل أصبحت شيئًا ذا قيمة الآن. ماذا سيحدث بعدها؟ العالم سيستمر بالتحرك، ولن يحس أحد بأنك متوقف، وستحاول لملمة شتات أفكارك وأحاسيسك، وتضميد جرحك الذي لا ينزف.


 العالم سيبدو صغيرًا أمام عينيك، لأن العالم الذي كان يملأ قلبك قد رحل. لكنك تحاول التشبث بأي شيء وسط بحر أحاسيسك وأفكارك التائهة للاستمرار في العيش. ربما تنجو بنفسك لتعود للحياة وتعيشها بكل تفاصيلها من جديد، أو ستظل فقط إنسانًا يتنفس دون أن يستشعر معنى الحياة. وهناك فرق بين الإثنين.


ستجد نفسك وحيدًا، عاريًا أمام واقع جديد، لا أحد فيه سيسألك عن شعورك، أو على الأقل يربت على رأسك كطفل صغير يحاول إخفاء دموعه أمام أقرانه بعد سقوطه أثناء اللعب ليبدو وكأنه رجل. لأن الرجل في مجتمعاتنا يجب ألا يبكي. لكن سقوط الفقد أشد ألمًا، والبكاء فيه له طعم آخر. أنت مجبر، بعد مسح دموعك خلف ستار غرفتك، أن تخرج للعالم لتواجه الواقع، وتلعب دورًا جديدًا وجدت نفسك مجبرًا على تقمصه.


لا تستغرب من مشهد طفل في سن صغيرة يعمل في الأسواق ليبيع أشياء بسيطة لا يهتم المارّة بشرائها، أو أن تجده في قارعة الطريق يمسح زجاج السيارات لعله يجمع بعض المال ليعود به مساءً إلى البيت ليسد به حاجيات أسرته؛ لأن طفولته انتهت لتبدأ مرحلة الرجولة وتحمل مسؤوليات أكبر. وهنا، عزيزي القارئ، سنغير الوجهة إلى مكان آخر! أول شيء، دعني أسألك سؤالًا: ماذا عن أهل غزة؟ كيف سيكون وقع الفقد عليهم؟ خذ وقتك للتفكير.


لا أخفيك أن هذا السؤال أطرحه على نفسي دائمًا، وأسترسل في الأمر لطرح أسئلة أخرى لا تنتهي، هل ما يشعرون به مختلف عما نشعر به نحن الذين لم نعش العدوان والظلم والقهر لسنوات عدة؟ كيف ستكون حياة من فقد أحد أبويه في غزة؟ بل كيف سيكون أثر الفقد على من استشهدت أسرته بالكامل؟ وماذا لو كان من بقي من الأسرة طفلًا عمره شهر واحد؟ عندما يكبر، كيف ستكون مخيلته قادرة على رسم ملامح أبويه؟ حتى وإن كان يملك لهما صورة تذكارية، سيظل يتمنى أن ينعم بقبلة منهما.


وهنا، أثر الفقد سيطفو في كل لحظة من لحظات حياته: عند تخرجه من الجامعة، أو خلال حفل زفافه، أو في لحظة ولادة طفله الأول. هذا ما ستعيشه في كل لحظة تكون فيها في قمة سعادتك. سيتسلل الحنين إلى داخلك، لتقول لنفسك: “تمنيت لو كان أبي معي”.


لا أخفيك أنني لم أتوقع عند دخولي للجامعة أنه لن يكون إلى جانبي في ذلك اليوم. أعانقه بكلتا يديّ وأقبل رأسه وأنا أقول له: “لقد حصلت أخيرًا على الشهادة الجامعية”. هنا أدركت أن طعم التخرج لم ولن يكون له طعم بعدها. هنا سأقول لك، عزيزي القارئ، إنني لا أشعر باليتم لنفسي، بل أشعر به حينما أجد طفلًا صغيرًا مات والده.


ساعتها أجد نفسي قد بدأت في استشعار إحساس اليتم، ذلك الإحساس الذي لا يستطيع أن يصفه أحد، إلا الذي عاشه. وحتى الوصف يظل قاصرًا أمام تفاصيله الصغيرة. ويظل يلازم الإنسان إلى آخر لحظة في حياته، لأنه يتسلل إلى داخلك كلما شاهدت شخصًا آخر يعانق أباه أو أمه. وتجتاحك رغبة لحظتها بأن تعود بالزمن للوراء لتنعُم بحضن دافئ لثوانٍ معدودة، لكنك تجد نفسك تعيش لحظة الفقد مرة أخرى، ليعود الجرح الذي لا ينزف في الظهور من جديد.


شارك

مقالات ذات صلة