سياسة
تختلف القناعات وتتصارع الأهواء، ولا ضير في نزاع الأفكار، لكن أن يراق الدم في مكان ما ويزهو الوهم في مكان آخر، ويذرف الطفل دمعه ويرقص آخر على نغمات الوجع في عالم مواز، فتلك سابقة في عصر المفارقات هذا.
ها هو الصراع يستعيد صورته الحقيقية من جديد، الطفل هدف، والعربي إنسان تتقاذفه رياح الدول بأبخس الأثمان، لا حاضر له على صفحات الزمن الراهن، وحده الإجرام يرسم له المستقبل، وما عليه سوى عبور الأيام إلى بر ما تشتهيه جهات عميقة تدير مفاصل العالم وتتحكم بصيرورته. أين الأمة؟ أين نحن؟
إذا كانت الصهيونية لا تتجزأ، حيث لا مسالم فيها، والعنصرية تتوالد في تفاصيلها حيث وجدت، استيطانا أو شتاتا أو استعمارا، وأمتنا في عينها واحدة بل أشرسها أطفالنا شباب وشابات الغد القادم، الكل شهداء محتملون مع اختلاف المكان والزمان.
ومن شلال الدم المتدفق يروي الصهيوني حلمه بالاستمرار والتوسع، فأين نحن إذا؟ من على شرفة العرب نظرة واحدة كافية لتظهر زركشات براقة وألوان تخفي خلف ربيعها رعبا وهوانا لم نشهده على امتداد شرقنا الأوسط.
مشين حال المنطقة شعوباً وأنظمة، فبعد أن امتدت ذراع إسرائيل عسكرياً في غزة ولبنان وسوريا واليمن ، وربما تتغول أكثر في بلدان أخرى قريباً، بات الهلع يخيّم على المنطقة، الجميع في حالة ترقب وقلق. ومما يرفع منسوب الضياع الحالي مساعي تقصي ما ستأتي به الإدارة الأمريكية الجديدة وعلى رأسها رجل يصعب التنبؤ بخطواته وما يضمر من نوايا.
وفي بقعة لا يملك أهل السلطة فيها قرارهم وهم أشبه ببيادق يحركها كفلاؤهم في الخارج يصبح القلق مشروعا.
لقد قالها نتنياهو بالفم الملآن إن حربه في غزة ستذهب بعيداً جداً، بحيث ستغير وجه الشرق الأوسط، وهذا يعني أن الجميع في المنطقة بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي وحلفائه الأمريكيين أشبه بقطع أثاث بالية حان وقت تغييرها وفي أحسن الأحول إعادة تنجيدها.
أما بالنسبة للشعوب، فلا حول لها ولا قوة تعيش أرذل حالاتها النفسية. لا يملك العقل إلا اكتظاظ الأسئلة والاستفسارات الحائرة، أين تبخر خيار المواجهة والتحدي؟ من المسؤول عن تبعثر قضايا شعوبنا وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي تتلقى سهام الخذلان يوميا؟ ماذا حل مكان الثوابت والمبادئ التي نشأت عليها أجيال وأجيال حتى اندثرت اليوم؟ أين جيوشنا ومكامن قوتنا ووحدتنا؟ وتطول قائمة التساؤلات على درب الضياع… لكن مرة جديدة وفي إطلالة من على شرفة العرب يجيبنا المشهد ربما، مشهد الاحتفالات واللوحات الراقصة ومهرجانات التيه في عالم السطحية والتفاهة، يجيبنا المشهد على شاشات ومواقع إعلامنا الهزيل الذي أسقط آخر أعمدة القيم والارتقاء بروح الثقافة العربية وفنها وتراثها ومسلماتها في الحرب والسلم، كذلك يجيبنا المشهد في شوارعنا المفككة المقموعة والمتناحرة، في أروقة مؤسساتنا التي ينخرها الفساد وتعبث بها أيدي السارقين والمأجورين، في أقسام أمننا المخترق والمكشوف لعين الآخرين وسطوتهم التكنولوجية التي سبقونا بها سنوات وسنوات، في أحيائنا التي تخبئ فقراء وجياع وشرفاء وأصحاب أفواه مطاردون على حد الحرف والكلمة.
هذا هو الحال الذي تسعى الأنظمة لإخفائه تحت عباءة التطور المزيف والانفتاح المعلب وتصدير صور التفلت الأخلاقي وتقديم مشهد حرية مشوهة من خلال حفل صاخب أو مهرجان غنائي أو برنامج تعر، وجوقة من التائهين تصفق لاستحقاقات التقدم المشبوه ومرحلة التناقضات والمفارقات العجيبة، أما من نأى بنفسه فجلس في زاوية الشرفة ينظر إلى السماء يصلي لفرج قريب، يرفع أيديه بالتوسل على الطفولة تعود لطفل في غزة أو يهدأ قلب أم شهيد في لبنان، يصلي أن يلتفت إليه إخوته، أن يهل هلال عربي جديد عله يضيء زمنا من الأوطان الموحدة القوية القادرة، حيث الاقتصاد الواعد وبناء جيل يضع حجر الأساس لتطور علمي وتقني وثقافي حقيقي ومبدع ينير درب الأجيال القادمة بالحرية والريادة المجتمعية والعلمية، بدلا من جحافل المتسولين، أو المأجورين، أو الفاسدين القابضين على أنفاس البلاد والعباد، وحتى تأتي تلك الصرخة في وجه الإمبريالية الصهيونية والأمريكية والتمرد على الغرب المستفرد برقابنا، سيبقى الإنسان العربي صاحب الصوت الصامت في زاوية الشرفة يصلي وينتظر عل إخوته يستفيقون من غيبويتهم ويعودون إلى رشدهم الملوث بعالم المادة والكسب السريع والذي ينهش بهم ويسطو على عقولهم إلى حد مرعب ومخيف!!