سِرُّ المخطوطة المفقودة في إحدى زوايا سوق الكتبيين ببغداد..
نوفمبر 21, 2024
44
سِرُّ المخطوطة المفقودة في إحدى زوايا سوق الكتبيين ببغداد..
الكاتب: أسامة الحسن
في زمن ازدهرت فيه العلوم والفنون، كانت الشمس تسكب شعاعها الذهبي على الرفوف المكتظة بالمخطوطات. كان المكان يعجّ بالعلماء والشعراء، وكلٌّ منهم يبحث عن كنزٍ معرفي أو نصٍّ يروي شغفه. في هذا السوق، وقف شاب يُدعى هشام، عُرِف بين أهل السوق بحبّه العميق للأدب العربي وسعيه الدائم خلف ما يُلهب قريحته ويغذي روحه.
ذات يوم، بينما كان هشام يُقلّب صفحات مخطوطةٍ قديمة، اقترب منه رجلٌ عجوز بوجهٍ مكسو بالتجاعيد وعيونٍ تسكنها الحكايات. ناوله الرجل ورقةً صفراء اللون، وقال بصوتٍ خفض: “إن كنت من أهل الكلمة، فاقرأ هذا”. تناول هشام الورقة بانبهار، وقرأ فيها: “في المكتبة الكبرى، كتابٌ يحوي ما لم يُكتب من قبل، وما لن يُكتب من بعد. من ملكه ملك الأدب، ومن فَقَده ضاع في التيه”.
اختفى الرجل قبل أن يسأله هشام عن معنى ما قرأ، لكنه شعر بنداءٍ داخلي يدفعه للبحث. حمل هشام الورقة معه وغاص في دهاليز بغداد بحثًا عن المكتبة الكبرى التي ورد ذكرها. سمع عنها في مجالس الأدباء، وقيل إنها أسطورة لا وجود لها، لكن شيئًا ما في الورقة أقنعه بأنها حقيقية.
استغرقت رحلته أيامًا، وبينما كان يعبر شوارع بغداد العتيقة، قادته قدماه إلى بوابةٍ حجرية، تكسوها نقوش عربية بديعة. كانت هذه المكتبة الكبرى.
دخل هشام مترددًا، فرأى رفوفًا شاهقة تمتد إلى السقف، ومخطوطات مرصوصة بعناية. في وسط القاعة، كان هناك كتابٌ واحد يختلف عن البقية، وُضع على منضدةٍ خشبية، يلمع غلافه الذهبي كأنه يدعو هشام إليه.
اقترب هشام ببطء، فتح الكتاب، وقرأ أولى الصفحات. كانت الحروف تتراقص أمام عينيه، تخبره بحكاياتٍ لم يسمعها أحد، وأشعارٍ تُسيل القلوب رقة. كان الكتاب كأنه ينبض بالحياة. لكنه فجأة، وجد نفسه محاصرًا بعاصفةٍ من الكلمات. تحدث إليه صوتٌ خفي:” ليس كل قارئٍ يستحقني. إما أن تُثبت جدارتك، أو أختفي منك للأبد”.
وجد هشام نفسه في اختبارٍ أدبيّ، عليه أن يجيب عن أسئلةٍ حول أعظم نصوص العرب وأبلغ أشعارهم. استحضر مخزونه الأدبي، واستدعى أبيات المتنبي وبلاغة الجاحظ، وكأنه في مناظرة مع الزمن نفسه. بعد ما بدا وكأنه ساعات طويلة من التفكير والإجابة، انقشع السحاب، وظهرت الصفحة الأخيرة من الكتاب. كُتب فيها: “لقد اجتزت الاختبار، لكن الأدب ليس ملكًا لأحد، بل هو أمانة. حافظ عليه، وانثر عبيره في العالم”.
عندما عاد هشام إلى واقعه، وجد نفسه واقفًا في السوق مرة أخرى، لكن الكتاب لم يكن بين يديه. أدرك أن المكتبة الكبرى لم تكن مكانًا ماديًا فقط، بل هي رمزية الأدب العربي الذي يحمل في طياته القوة والحكمة. منذ ذلك اليوم، لم يتوقف هشام عن الكتابة، وأصبح يُعرَف بأنه حامل شعلة الأدب، الذي يضيء للعالم ما بين دفتي الكلمة.