سياسة
وصل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، يوم الأحد 17 نوفمبر، إلى العاصمة النيجيرية أبوجا، حيث كان في استقباله الرئيس بولا تينوبو في زيارة تهدف إلى تجديد ما وصفه الطرفان بـ”الشراكة الاستراتيجية” التي تربط بين أكبر ديمقراطية في العالم وأكبر ديمقراطية في القارة الأفريقية.
ووصفت نيودلهي اللقاء بأنه اجتماع بين “شريكين طبيعيين” يسعيان إلى تعزيز دورهما في الشؤون العالمية. وفي مستهل المحادثات، قال مودي: “إن تعاوننا قوي للغاية، وهناك العديد من الآفاق الجديدة لتطوير هذه الشراكة. كما عملنا دومًا معًا لمواجهة تحديات مثل الإرهاب والانفصالية والقرصنة والاتجار بالمخدرات”.
لكن ما الذي تسعى إليه الهند في إفريقيا؟
نيجيريا، أكبر دول إفريقيا سكانًا بواقع 220 مليون نسمة، تُعد أيضًا من أبرز القوى الدبلوماسية في القارة. أما الهند، الدولة النووية والأكثر سكانًا في العالم بـ1.4 مليار نسمة، فهي تمثل سدس البشرية ومن هنا تطمح لتعزيز نفوذها في القارة السمراء عبر أبوجا.
كما تستفيد الهند في تقاربها مع إفريقيا من جالياتها الكبيرة المنتشرة في أنحاء القارة. ففي نيجيريا وحدها، وفقًا لتقرير صادر عن صحيفة أفريكا ريبورت في أكتوبر الماضي، يعيش حوالي 60 ألف شخص من الجالية الهندية، الذين استقبلوا رئيس الوزراء مودي بحفاوة كبيرة. عطفًا على ما سبق، توجد جاليات هندية مؤثرة في دول أخرى بغرب وشرق إفريقيا، وحتى في جنوب إفريقيا، مما يعزز جسور التواصل والتعاون بين الهند ودول القارة.
التعاون السياسي: بين الطموح المشترك والتنافس الدبلوماسي
تأتي زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى نيجيريا في إطار جهود مشتركة تسعى من خلالها الدولتان للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فالدول الخمس الدائمة العضوية – الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، وبريطانيا – تحتكر حق النقض (الفيتو) الذي يمنحها قوة كبيرة لحماية مصالحها الدولية. وفي ظل دعوات متزايدة لعالم أكثر “تعددية الأقطاب”، تطالب الدول الأفريقية والآسيوية وأميركا اللاتينية بدور أكبر في صياغة النظام العالمي الجديد.
وقد أشار مودي، خلال لقائه بالرئيس النيجيري بولا تينوبو، إلى هذا الطموح المشترك، مؤكداً على أهمية التعاون لتسليط الضوء على أولويات الجنوب العالمي، قائلاً: “بفضل جهودنا المشتركة، سنحقق النجاح في هذا المسعى”. كما أعربت نيجيريا عن دعمها القوي لإصلاح المؤسسات الدولية، مؤكدة أنها تتمتع بمؤهلات بارزة تجعلها منافساً قوياً للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن.
رغم هذا التعاون، يبقى التنافس بين نيجيريا وجنوب إفريقيا حاضراً. فكلا البلدين يطمحان إلى أن يكونا ممثلين دائمين للقارة الأفريقية في حال استجابت الأمم المتحدة لدعوات الإصلاح. أما الهند، التي طالما سعت إلى مقعد دائم في المجلس، فتعتبر شريكة طبيعية لنيجيريا في هذا السياق. الهند، كعضو في مجموعة “البريكس” التي تضم تسع دول بما فيها جنوب إفريقيا، تواجه تحدياً مماثلاً، حيث تتهم نيجيريا جنوب إفريقيا بعرقلة حصولها على العضوية الكاملة في المجموعة.
في هذا المشهد، يبدو أن الهند ونيجيريا تدركان أن تعاونهما الدبلوماسي يمكن أن يكون رافعة لتحقيق أجنداتهما المشتركة على الساحة الدولية، رغم تعقيدات التنافس الداخلي والإقليمي.
التعاون الاقتصادي: شراكة متنامية بين الهند وإفريقيا
تحولت القارة الأفريقية إلى ساحة تنافس بين القوى الكبرى، بدءًا من الولايات المتحدة وأوروبا، وصولاً إلى روسيا وتركيا والصين. ومع ذلك، برزت الهند كفاعل اقتصادي رئيسي في إفريقيا، حيث أعلنت قبيل زيارة رئيس الوزراء مودي أن أكثر من 200 شركة هندية استثمرت نحو 27 مليار دولار في قطاع التصنيع النيجيري، ما جعلها من بين أكبر المساهمين في خلق فرص العمل. كما تعد نيجيريا وجهة رئيسية لصناديق التنمية الهندية، حيث تلقت قروضًا وبرامج تدريب بقيمة 100 مليون دولار لدعم العمال المحليين.
وبينما بلغت التجارة الثنائية بين الهند وأفريقيا في الفترة 2022-2023 حوالي 100 مليار دولار، ما يجعل الهند رابع أكبر شريك تجاري للقارة، تجاوزت الاستثمارات الهندية الإجمالية 75 مليار دولار، ممتدة من تكنولوجيا المعلومات إلى المعادن الحيوية. ولا يقتصر النفوذ الهندي على التجارة والاستثمار المعاصرين فقط، بل يمتد عبر أجيال من الجاليات الهندية التي استقرت في إفريقيا منذ الحقبة الاستعمارية البريطانية. وتعد هذه الجاليات، خاصة في دول شرق إفريقيا مثل أوغندا وكينيا وتنزانيا، جزءًا لا يتجزأ من النسيج التجاري للقارة، مما عزز العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الطرفين.
دبلوماسية الشركات الهندية في إفريقيا: قوة اقتصادية متعددة الأوجه
لم تعد الشركات الهندية في إفريقيا مجرد كيانات اقتصادية تسعى إلى الربح، بل أصبحت أدوات حيوية لترسيخ النفوذ الهندي في القارة، مستفيدة من قوتها الاستثمارية وعلاقاتها الدبلوماسية. عبر مشاريع ضخمة واستثمارات استراتيجية، تشكل هذه الشركات روافع اقتصادية وسياسية تعيد تعريف العلاقات الهندية الإفريقية. وهنا أبرز الأسماء الرائدة ودورها:
ريلاينس إندستريز: بقيادة موكيش أمباني، تُعزز ريلاينس وجودها في إفريقيا عبر شراكة مع شركة NGICالغانية، مستهدفة سوق الاتصالات الواعدة. بفضل شركتها التابعة Radisys، ستوفر البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس والتطبيقات والهواتف الذكية. ومن المتوقع أن تبدأ العمليات بحلول نهاية 2024، مما يجعل غانا منصة للابتكار الرقمي.
مجموعة أداني: تستثمر المجموعة بجرأة في مجالات متعددة. في يونيو 2024، استحوذت على محطة حاويات في دار السلام ضمن مبادرة بوابة شرق إفريقيا بالتعاون مع موانئ أبوظبي. كما أبرمت صفقة بـ736 مليون دولار مع كينيا لبناء 388 كيلومترًا من خطوط الكهرباء، مع إدارة المشروع لمدة 30 عامًا. في مجال الطيران، قدمت عرضًا بقيمة 1.85 مليار دولار لتطوير مطار جومو كينياتا في نيروبي، لكنه يواجه تحديات قانونية.
مجموعة أديتيا بيرلا: تُبرز المجموعة تفوقها في التعدين والتكنولوجيا. استثمرت في غينيا لاستخراج البوكسيت وتكرير الألومينا لدعم صناعة الألمنيوم. كما تُوسّع عمليات الأسمنت في تنزانيا وموزمبيق وإثيوبيا. في قطاع المنسوجات، تعتمد على المواد الخام الإفريقية لدعم سلسلة التوريد العالمية، مما يعزز الروابط التجارية بين الهند وإفريقيا.
بهارتي إنتربرايزز: بعد استحواذها على عمليات “زين إفريقيا” في 2010 مقابل 10.7 مليار دولار، أصبحت “إيرتل إفريقيا” واحدة من أكبر شركات الاتصالات في القارة. بلغت قيمتها السوقية 8.11 تريليون نيرة نيجيرية في نوفمبر 2024، ما يجعلها لاعبًا أساسيًا في البورصة النيجيرية وأحد أعمدة التحول الرقمي.
مجموعة تاتا: منذ 1969، رسخت تاتا وجودها في إفريقيا، ووسعت عملياتها عبر 11 دولة. استثماراتها الأخيرة تركز على الطاقة النظيفة، بما في ذلك المركبات الكهربائية، وتستهدف الأثرياء الأفارقة من خلال توزيع سيارات جاكوار لاند روفر، مما يعكس رؤيتها لاقتصاد راقٍ ومستدام.
شركة ماهيندرا وماهيندرا: تُركز ماهيندرا على التصنيع الزراعي والسيارات الكهربائية. أسست مصانع تجميع في نيجيريا وكينيا وإثيوبيا، وتستعد لتنويع أعمالها بمزيد من الابتكارات في المركبات الكهربائية، مما جعلها شريكًا رئيسيًا في التحول الصناعي للقارة.
وهكذا باتت الشركات الهندية تكتب فصولًا جديدة في العلاقات الهندية الإفريقية. هذه البيانات ليست مجرد أرقام عن شركات، بل شهادات على التحول الاستراتيجي الذي تقوده الهند في القارة، حيث تجمع بين الاستثمار والتنمية والتأثير السياسي، مما يضمن لها موقعًا متقدمًا في مستقبل إفريقيا.
الهند تتحدى الصين في إفريقيا: سباق على النفوذ في القارة السمراء
في ميدان المنافسة بين القوى العالمية، لم تعد إفريقيا ساحة للصراع بين الغرب والشرق فقط، بل أصبحت ميدانًا جديدًا للتنافس بين عملاقين آسيويين: الهند والصين. كلاهما يسعى لتوسيع نفوذه في القارة، باستخدام أدوات مختلفة ورؤى متباينة تعكس طموحاتهما الاقتصادية والجيوسياسية.
على مدار العقدين الماضيين، رسّخت الصين موقعها كشريك تجاري رئيسي لإفريقيا، حيث باتت مشاريعها العملاقة في البنية التحتية بمثابة علامة فارقة لتوجهها الاستراتيجي. من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، استثمرت الصين في مشاريع كبرى مثل خط السكك الحديدية (أديس أبابا-جيبوتي) وسد غيب الثالث في إثيوبيا، مما عزز نفوذها في 52 دولة إفريقية.
على النقيض، تستمد الهند قوتها من روابط تاريخية وثقافية طويلة الأمد مع القارة، تعود إلى الحقبة الاستعمارية البريطانية. وفي العقد الأخير، صعّدت نيودلهي من حضورها عبر مبادرات تستند إلى القيم المشتركة مثل الديمقراطية والتنمية المستدامة. وعلى الرغم من أن حجم التجارة الثنائية بين الهند وإفريقيا، الذي يبلغ نحو 100 مليار دولار، لا يزال أقل من الصين، إلا أن تركيزها على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة عزز شعبيتها بين القادة الأفارقة. مع ضرورة الذكر أن مشاريع الهند، وإن كانت أصغر حجمًا مقارنة بالصينية، تترك أثرًا مباشرًا في تحسين حياة السكان. ومن خلال “خط ائتمان إفريقيا”، دعمت الهند مشاريع تنموية في 41 دولة، شملت خطوط الكهرباء، والمستشفيات، والمياه النظيفة.
أما في قطاع الطاقة، يتجلى التنافس في مشاريع الغاز الطبيعي المسال في موزمبيق، حيث تسعى الهند إلى ترسيخ حضورها في هذا السوق الاستراتيجي، متنافسة مع الاستثمارات الصينية الكبرى. وعلى الصعيد الدبلوماسي والقمم والتحالفات، بينما تستثمر الصين في مبادرات مثل منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC)، الذي يوقع من خلاله القادة الأفارقة شراكات كبرى، تركز الهند على بناء علاقات ثنائية أعمق. وقمة “الهند-إفريقيا” تمثل ركيزة جهودها لتعزيز التعاون في مجالات التعليم والطاقة المتجددة.
وفي هذا الإطار تعاونت الهند مؤخرًا مع اليابان لإطلاق “ممر آسيا-إفريقيا للنمو”، في محاولة لمنافسة مشروع الحزام والطريق الصيني، مع الالتزام بمبادئ الاستدامة وتخفيف الأعباء المالية على الدول الإفريقية.
الخاتمة: في تتمة هذا المقال تجدر الإشارة أن الصين والهند، رغم اختلاف استراتيجياتهما، تتنافسان بقوة في إفريقيا، حيث تمتلك كل منهما نقاط قوة وتواجه تحديات. الصين تُبرز تفوقها عبر موارد ضخمة وسرعة تنفيذ مشاريع بنية تحتية كبرى، مما يمنحها شراكات طويلة الأجل مع الحكومات. أما الهند، فتتبع نهجًا يعتمد على بناء القدرات البشرية والتدريب، مستفيدة من علاقاتها التاريخية والثقافية مع إفريقيا، مع تقديم نموذج مالي أقل إثارة للجدل وأكثر استدامة.
لكن كلا البلدين يواجه عقبات: الصين تتعرض لانتقادات متزايدة بشأن ممارساتها التي يصفها البعض بـ”الاستعمار الجديد”، بينما تفتقر الهند إلى الموارد الكافية لمنافسة نظيرتها الصينية. ومع احتدام المنافسة، يبقى التحدي الأكبر في كسب ثقة الدول الإفريقية بطريقة توازن بين الدعم والتأثير المستدام.
والهند في إطار مساعيها لتحقيق أجنداتها الاستراتيجية، تعمل على تسويق سرديات سياسية وإعلامية تستند إلى القيم المشتركة مع ديمقراطيات القارة الإفريقية، مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا. وتُركّز على فكرة التعاون بين “أكبر ديمقراطية في العالم” وأكبر الدول الأفريقية ديمقراطية وسكانًا، في إشارة إلى نيجيريا. هذه السردية، التي حظيت بتغطية واسعة في الصحف الهندية مؤخرًا، تصف نيجيريا بأنها “البوابة الكبرى للهند نحو إفريقيا جنوب الصحراء”، مما يعكس أهمية هذا البلد في الرؤية الهندية لتوسيع نفوذها في القارة السمراء.