آراء
كانت معركة طوفان الأقصى بمثابة مرآة كاشفة للعالم، لم تكتفِ بإحياء روح المقاومة وإعادة الأمل في حق الشعوب بالدفاع عن أرضها، بل كشفت عن نزوح مخيف نحو التطرف، انحدار أخذ يضرب بمفهوم العدالة وحقوق الإنسان عرض الحائط. بعد أكثر من 400 يوم من صراع غزة المرير، حيث يتصاعد القصف وتغدو الحياة أكثر هشاشةً، تتضح صورة عالم يجنح نحو العنف بشكل علني وصريح، بلا مواربة ولا خشية من التناقض. لقد أضاءت معركة طوفان الأقصى تلك الزوايا المعتمة من انحيازات البعض، كاشفةً استعداد أطراف عديدة لدعم القوة المفرطة، وتأييد التجاوزات بأعذار واهية، وترك غزة تُواجه مصيرها وحيدة في ظلام متراكم.
أصبحت مظاهر هذا التطرف، السياسية والعسكرية، جزءًا من المشهد العالمي. بتأييد غير محدود، تتسارع بعض الأطراف لدعم العصابات الصهيونية، ما أتاح للكيان الصهيوني مساحات مفتوحة للبطش والتصعيد بلا قيود، تحت غطاء زائف من المبررات الأمنية. كل يوم، تتعمق هذه المأساة الإنسانية بينما يُظهر العالم قدرًا متزايدًا من الصمت أو الانحياز العلني، وكأنّ معركة طوفان الأقصى قد كشفت عن حدود جديدة لما يمكن أن تقبله بعض الأطراف في التنازل عن القيم الإنسانية.
لكن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه الآن: هل من الممكن العودة عن هذا النزوح؟ هل بإمكان العالم حقًا التراجع إلى حالة من التوازن والاستقرار؟ ثمة أصوات قليلة، وإن كانت ضئيلة وسط بحر التجاهل، تنادي بضرورة العودة إلى ضمير عالمي يُعيد بناء جسور العدالة. هذه العودة تبدأ أولًا من الاعتراف بظلم الشعب الفلسطيني، ومن العمل على مساءلة الكيان الصهيوني لا مكافأته، ومن تحييد المصالح الآنية عن مشهد حقوق الإنسان. إن العودة عن هذا النزوح تحتاج إلى إرادة دولية صادقة؛ تتطلب شجاعة أخلاقية تعيد لحقوق الشعوب قيمتها وتضع حدًا لاستغلال القوة. قد يكون الاستقرار حلمًا بعيدًا، لكنه ليس مستحيلًا إذا ما تمسك العالم بقرارات وإصلاحات دولية تُعزز القيم بدلاً من أن تحمي الهيمنة.
في الجانب الآخر من هذه المعادلة، تبرز مسألة الجيل الجديد الذي يُعاصر هذه الفوضى وانعدام الثقة في النظام الدولي. كيف سيؤمن أبناء غزة والعالم بنظام وعدالة يرونها منحازة للظلم؟ هذا الجيل الذي يكبر بين أنقاض الاستثناءات القانونية وخذلان المجتمع الدولي، سينشأ وهو يشكك في المؤسسات والأطر التي كانت من المفترض أن تحميه، وسيترسخ في عقله أن القوانين التي تحكم العالم ليست سوى كلمات فضفاضة تخدم الأقوياء. إن هذه الأجيال، التي تراقب عن كثب صمت العالم، ستكبر وهي فاقدة الثقة بمفاهيم كالعدالة والمساواة. إذا استمر الحال على ما هو عليه، فقد ينشأ جيلٌ جديدٌ لا يرى في المؤسسات الدولية سوى واجهة شكلية، ولا يرى في القوانين إلا أدوات مرنة تخدم الأقوى وتتنكر للضعفاء.
ما يبعث على التأمل العميق هو تساؤلنا حول طبيعة هذا النزوح نحو التطرف، وأبعاده النفسية والمعنوية. هل وصل العالم إلى مرحلة لم يعد فيها قادرًا على التمييز بين الظلم والعدل؟ أم أن المصالح الضيقة والمخاوف المفتعلة طغت إلى الحد الذي باتت فيه بعض الأطراف تتسارع في سباق نحو تغذية التطرف، وكأنّها تجردت من معاني الإنسانية؟ يبدو أن هذا الانحدار ليس إلا تجسيدًا لخوفٍ دفين من مقاومة لا تقبل التنازل، ومن شعوبٍ لا تزال تقف رغم كل شيء، شعوب أدركت في معركة طوفان الأقصى أن التاريخ يُكتب بصمودها، وأن الحق لا يسقط بالتقادم، حتى وإنْ تنازل البعض عن مسؤولياته تجاهه.
في هذا السياق، تبرز شواهد تاريخية تضع الأحداث الحالية في سياقها المتكرر؛ ففي عام 1948، حين شهدت فلسطين مجزرة دير ياسين، أقدمت العصابات الصهيونية على اقتحام قرية فلسطينية مسالمة، في مشهد كان يهدف إلى بث الرعب بين السكان وتهجيرهم قسرًا، في بداية تشكّل الكيان الصهيوني. كذلك، في حرب فيتنام، حين استخدمت إحدى القوى العظمى ترسانتها العسكرية بشكل مفرط ضد المقاومة الفيتنامية، وجد العالم نفسه أمام كارثة إنسانية أودت بحياة الملايين، ولم تحسم المعركة لصالح المعتدي، بل زادت من صلابة المقاومة وأدت إلى انحسار دعم الحلفاء وتزايد التعاطف الشعبي مع المظلومين. وعلى شاكلة هذه التجارب، نجد اليوم أن دعم القوى الكبرى للكيان الصهيوني دون قيد أو رادع يدفع بالصراع نحو هاوية قد لا يسهل الخروج منها، ويؤكد أن تكرار التاريخ بات أقرب مما كان يُظن.
وهنا يكمن السؤال الحقيقي: إلى أي مصير يقودنا هذا النزوح نحو التطرف؟ إذا استمر العالم في قبول هذا التسارع نحو انحيازات فجة وقبولٍ أعمى للقوة المفرطة، فما هي النتائج المتوقعة للبشرية؟ هل نحن مقبلون على مرحلة يعمّ فيها قانون الغاب ويصبح من الطبيعي أن يتغاضى القوي عن حقوق المستضعف؟ في عالم يفتقر إلى المعايير الثابتة للعدالة، قد تتشكل أجيال لا تؤمن بشيء سوى الصراع، وتتحول القيم إلى ذكرى من الماضي.
إن هذا النزوح نحو التطرف ليس مجرد مسار مؤقت، بل قد يكون نقطة تحول عميقة تؤثر على مستقبل الإنسانية بأكملها. فهل سيستطيع العالم التراجع، وإعادة بناء الثقة في القوانين والمؤسسات، أم أن البشرية قد اختارت طريقًا لا رجعة فيه نحو الانقسام والتفكك؟