سياسة

وطن مأزوم

نوفمبر 18, 2024

وطن مأزوم


أزمة مصر الاقتصادية التي لم تعد خافية، ننظر لها بصرف النظر عن المتسبب فيها وهو السلطة إجمالا ورئيس الجمهورية على وجه التحديد، أقول ننظر لها بمنظور مركب، هي أزمة معقدة ولا شك. لا يمكن تحليلها مبدئيا دون إدراك أن لها شقا ماليا، وشقا استثماريا. منها ما يتوجب لإصلاحه تشريعات، ومنها ما يحتاج لإجراءات بعضها عاجل. طرحنا بدائل عملية في برنامجنا الذي كان معدا لخوض الانتخابات الرئاسية. الأولوية طبعا لملف الديون المستفحل، انطلاقا للإصلاح الخلل في ميزان المدفوعات، ثم سعر الصرف، التضخم يأتي تاليا وأخيرا. الاستثمار وضروراته في صنع السياسة وتشكيلها، يتساوى في ذلك المحلي أو الأجنبي. لا ينفصل ذلك عن تفصيل وإصلاح السياسات الضريبية والجمركية.


يلزم أولا للنظر لهذه الأزمة بمستوياتها المختلفة إصلاح الخلل المصنوع في القطاعات الأساسية للاقتصاد. لا يمكن لمصر أن ينصلح حالها اقتصاديا من دون الرجوع إلى مشروع محترم للتصنيع. ولا يمكن ذلك بطبيعة الحال إلا في جزء رسم سياسات جديدة في الملف الزراعي المصري. تليهما رؤية متكاملة للنهضة بالقطاع السياحي المصري وهو شديد الثراء ولحظي الأثر. لمصر خمسة أساسية للعملة الأجنبية ومصارف رئيسية، ولكي نستثمر في الوجهتين لابد من رؤية محددة لتنمية، تضع المواطن أولا وأخيرا مستهدفا لكل سياسة ولكل اتجاه.


كي نحدد الخطوط العريضة لأي استنهاض اقتصادي لابد من ضبط النفقات. ولا يمكن أن نحقق ذلك في ظل عجز الموازنة الذي يتفاقم السنة تلو الأخرى حتى أنه قد يتجاوز الثلاثين مليار دولار عام ٢٠٢٣. الحكومة في مأمن من الحساب أمام البرلمان، من ثم العقاب إذا لزم الأمر بسحب الثقة منها، ومن أمن العقاب أساء الأدب طالما أن المال مال عام والميزانية من جيب المواطن بالأساس. نرى الحكومة تعد بأرقام خيالية ليس في استطاعتها تحقيقها. ستة وخمسون بالمئة من جملة الإنفاق تذهب إلى خدمة الدين بدلا من جدولته والاستثمار في هذه الجدولة لصالح مشروعات تدر دخلا يكفي لمحاولة سده ولا يطأ ظهر المواطن.


مصر ستستفيد جدا كدولة وشعبها سيستفيد بالضرورة من التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة. أول سؤال لأي سلطة جديدة هو هل سيتم التعامل مع ملف الدين العام بنفس الطريقة المستهلكة؟ الإجابة قطعا لا. خمسون بالمئة من الإيرادات العامة التي ستأتي لا محالة من ديون جديدة ستذهب سدى. لابد أن نعترف أن المشكلة التي نواجهها أصبحت أكبر من هذه السلطة رغم أنها في المعظم الأعم صنيعتها. لابد أن نعترف ألا سبيل لحلها في ظل السلطة نفسها. أعيد دوما التأكيد على أن الأزمة الاقتصادية حلها مدخله سياسي. لابد من قرار واع من سلطة غير هذه القائمة لا ينقصها القصد ولإرادة ولا تعييها الحيل. لا يمكن بناء الاستقرار الاقتصادي على الخوف والقهر. لابد من التراجع أمام سلطة جديدة من قلب الشعب ولمصلحته تعمل. فلا يمكن لدولة أن تنهض من دون تعليم جيد وتأسيس يخرج كفاءات خلاقة تفكر بعيدا عن المألوف والذي أصبح اعتياديا. الفساد لا يخلق دولة ولا سلطة ولا حكما رشيدا.


قلت في البرلمان أني قرأت يوما تحقيقا صحفيا جيدا يتحدث عن فوضى براءات الاختراع في مصر في السنوات الأخيرة. لفتني في التحقيق وقتها أن رجلا بسيطا يحتفظ به لأنه أثبت أن ”الأرض هي مركز الكون“ وأن الشمس والقمر يدوران حولها، هذا الرجل حصل على براءة اختراع للأسف. أساوي بين ذلك والتفاخر والتفوق الزائف بأطول مئذنة وأكبر مسجد وأطول جسر وما إلى ذلك. لابد أن ننظر إلى تجارب نجحت بالفعل في تطوير مواردها بعد إعادة جدولة ديونها وسبق وضربت بزامبيا المثل في ذلك.


كنا قديما نسمع في عهد الاستعمار والإمبراطوريات أن دولة كذا احتلت دولة أخرى واستفادت بالانقضاض على مواردها. لكننا في العصر الحديث لا يمكن أن نقبل بمبدأ الانقضاض على ما لا نستحق أصلا. مواردنا تحت أيدينا ولا يزال هناك مجال لحلول غير الاستمرار في الاقتراض والاستدانة إلى الأبد. إن لم نوقف هذا النزيف سيتوقف حتما رغما عن إرادتنا. تصنيفنا الائتماني كالقنبلة الموقوتة إن لم نستنهض علماءنا وخبراءنا لإيجاد حلول لا تعتمد النفعية ولا الفساد ولا إبداء الثقة على الخبرة. النهضة أصلا تقوم على الموارد المادية والبشرية جنبا إلى جنب. لا يمكن لدولة أيا ما كانت أن تنهض اقتصاديا من دون تعليم قادر على خلق كوادر سياسية واقتصادية تتكاتف بالإرادة والقدرة على التغيير فعلا.


ما أعنيه دائما كمدخل لمستقبل أفضل هو الاستثمار في التعليم والبحث العلمي. قد يرى البعض أفق ذلك طويلا وأن طريقه بعيد. أقول إن العشر سنوات مضت ثقيلة لكنها مضت. وأن العشرية الآتية لا ينبغي أن تشبه العشرية الفائتة. لا يمكن تخيل أن شركة واحدة للدواء تجني أرباحا من صنف واحد للدواء أكثر من الناتج المحلي لدولة بحجم مصر. هذا فقط مثال أستدل فيه بالعلم والتعليم كي لا تنفرد شركة ولا مشروع ولا جهة باحتكار سوق كاملة.


هذا يحدث للأسف وقدمنا به إحاطات للبرلمان. كل ما نحتاجه هو أن نهتم حقيقة لا زيفا بنوابغ موجدة فعلا، لا يلزمها سوى الاكتشاف، التنمية والاستثمار فيها ماديا ومعنويا. لا يمكننا حتى لو حللنا مشاكلنا الحالية أن نرى مستقبلا مختلفا دون كوادر جديدة وحلولا جديدة  لمشاكلنا المتفاقمة وأثقلها مشكلة إفقار الشعب المصري. لا يمكننا أن نجد حلولا اقتصادية لوطن مأزوم سياسيا.


شارك

مقالات ذات صلة