مدونات
تظهر أحادية التفكير عند كل “ترند” جديد، إذ يبدأ كل جانب بتجهيز معداته لشن الهجوم على الطرف الآخر المناقض له، حرب شرسة بين يمين ويسار بلا وسط، فلا وجود للآراء المركبة ولا أنسنة للإنسان! فمن لوازم كون الإنسان إنسانًا الوقوع في الأخطاء، إذ يكمن بداخلنا كبشر مزيج معقد من الصواب والخطأ، ويمكن فعل أحدهما سواءً كنا قاصدين أو غير قاصدين، أو صادف اتساق أحدهما مع مصلحتنا الشخصية، وغيرها من الاحتمالات، فكيف يمكن لموضوع أو رأي أو قضية ما أن تتخذ جانبًا واحدًا فقط؟
فالآراء والقضايا والفلسفات المختلفة إنسانية في النهاية، نابعة منه وتحوم حوله وتنتهي إليه، ويمتزج الصواب بالخطأ فيها، وعندما يتخذ الإنسان موقفًا منها من الطبيعي أن يتقاطع مع بعض أجزائها ويرفض بعضها الآخر، وليس من الضروري أن يتخذ جانبًا واحدًا بكل ما فيه.
على عكس ما يحدث في “التريندات” والقضايا الجدلية، إذ يكون الأشخاص محملين بآراء أحادية بسيطة غير مركبة بلا تحليل ولا فصل ولا تنقية، وكأن هذه الأيديولوجية أو هذا المذهب أو ذلك الفاعل جانب كامل الصواب أو كامل الخطأ، مما يؤدي إلى نتائج واستنتاجات منحازة وغير سليمة في الأغلب، ومليئة بعواطف سلبية كالتعصب والغضب والغرور. أين النقاش الحقيقي؟ عدم وجود مجال للآراء والمواقف المركبة يؤدي إلى غياب مجالات النقاش الحقيقية، وتُستبدل بحلبات مصارعة عنيفة يحاول كل طرف فيها لكم الطرف الآخر لـ “قصف جبهته” والاستهزاء به وآراءه، مما يوقف ركب التقدم ووجود حوار مجتمعي فعّال يحرك أفراد المجتمع للأمام؛ كي يقفوا على أرضية مشتركة نتحاور فيها بهدوء ونتقبل الآراء المختلفة.
ونتاجًا لذلك يكون هناك عدم وضوح لنقاط الالتقاء والاختلاف، إذ إن كل طرف لا يسعى لفهم الآخر والوصول لحل بقدر ما يهرول ناحية ذلك “الانتصار الوهمي”، وعند غياب الفهم يغيب التحليل، وعند غياب التحليل نعجز عن الوصول لأصل كل رأي، ومن ثم الوقوف على ما نتفق ونختلف فيه حقًا من الجذور وليس من السطح؛ لكي نستطيع تكوين آراء مركبة بعد فهم الأفكار وتفكيكها. فهل الخلاف يكمن في الفكرة بحد ذاتها أم في المرجع والأساس الذي بُنيت عليه؟ هل تتحدث من زاوية القانون أم الشرع أم الأعراف؟ ما هي مواطن الانحياز المحتملة التي يمكن أن تؤثر في رأيك؟ هل تتحدث عن الواقعة من زاوية الفعل أم الفاعل أم ردة الفعل؟ وغيرها من الأسئلة التي توضح نقاط الخلاف بالتحديد.
فعند نقاش إحدى القضايا كعمل المرأة مثلًا، سيعطي كل شخص رأيه بناءً على أفكاره ومعاييره في الحكم، ويبدأ بالدفاع عن وجهة نظره وسرد حججه وأدلته، وهذا مستوى طبيعي كبداية، ولكن يجب على النقاش أن يصل إلى جذر رأي كل شخص منهم، فما هو المرجع والمعيار الذي بنى عليه كلٌ من الطرفين رأيه؟ وعندئذ سيتحول النقاش إلى المعايير والمعتقدات الأساسية التي بُنيت عليها الآراء..
المقدمات وليس النتائج، بدلًا من التحدث في القضية على نحو سطحي في حين أن المعايير والأسس مختلف عليها، فالاختلاف السطحي غير العميق، إذ إنه في الثاني تكون نقطة الخلاف دقيقة وواضحة، ويمكن أن توصلنا إلى أن نتفق، أو على الأقل نصبح واعين لنقاط الالتقاء والخلاف، وبالتالي نصبح أكثر تقبلًا لبعضنا البعض، ونذهب بالحوار إلى منطقة أكثر عمقًا تحركنا للأمام.
على عكس الاختلاف الأول، حيث سنظل في حلبة المصارعة نحاول إصابة بعضنا بأي شكل وفي أي مكان، ولن نستطيع تحديد نقاط الالتقاء والاختلاف الحقيقيتين، وسنبتعد أكثر عن المنطق وطاولة الحوار، ولن نتحرك إلى أي مكان.
كما يؤدي غياب الآراء المركبة إلى وجود ازدواجية في المعايير وعدم اتساق في الأفكار، لأنه يمكن لحزمة من الأفكار أن تتعارض مع حزمة أفكار أخرى، كأن يؤمن أحد الأشخاص بـ”أخذ الثأر” لكونه جزءًا من حزمة العادات والتقاليد، وفي الوقت نفسه يؤمن بحرمة القتل في الدين، أو بفكرة سيادة القانون، وتبرز هنا أهمية الآراء المركبة، فيجب عليه تحديد موقفه بشكل حاسم بتبني واحدة والتخلي عن الأخرى، والمقصود هنا التخلي عن جزء من حزمة الأفكار وليس الحزمة بكاملها، فيمكن أن يحافظ على العادات والتقاليد ولكن مع التخلي عن جزئية الثأر فقط، وهذا هو الموقف المركب.
إذًا فالآراء والمواقف المركبة ليست تناقضًا كما يتم اتهام بعض حامليها، بل هي تساعد على بناء نسق متكامل ومتوافق مع بعضه، فلا حاجة إلى إلزام النفس بفكرٍ معين بكل ما فيه، بل يمكن أن اتفق مع جانب واختلف مع آخر. كما أن هذا التفكير المركب يُعفينا من قولبة الأشخاص والحكم عليهم بانتماءات لا دخل لهم فيها لمجرد اتخاذهم لموقف أو رأي ما، مع أنه ليس بالضرورة أن يكون مؤيدًا لهم، فالناس والمواقف والحياة أعقد من ذلك، وكثيرًا ما قد نضطر إلى اتخاذ مواقف جزئية.
ومن المفارقة أنك تجد نفس الشخص يُتهم بانتمائه لأكثر من أيديولوجية في الوقت نفسه، مع أن بعضها يمكن أن يصل لحد التناقض! التعليم ومواقع التواصل الاجتماعي أرى أن من أسباب تلك المشكلة هو التعليم بشكل أساسي، وأن مواقع التواصل الاجتماعي جاءت ولعبت دورًا مهمًا في زيادة حدتها، فمن المتعارف عن أنظمتنا التعليمية في مصر والعالم العربي -بل في أغلب دول العالم- أنها تعتمد بشكل كبير على ما يمكن تسميته “التعليب”، إذ يُوضع الأفراد داخل غرف مستطيلة ليقودهم معلم يساعدهم على حفظ الدرس ليستطيعوا عبور الامتحان بسلام. لا مجال للمناقشة وتبادل الآراء، كما أن الإبداع يكون محدودًا إن لم يكن معدومًا، ونادرًا ما تجد الطلاب يستخدمون مهارات التفكير العليا كتحليل المعلومات التي يتعلمونها، ثم تقييمها، فضلًا عن الإبداع والابتكار فيها، وهو ما يؤدي إلى ضعف مهارات عقلية مهمة، كما يُضعف دور التفكير المنطقي والتفكير النقدي في عملية اتخاذ القرارات وحل المشكلات.
حتى وإن كان هناك تغييرات في نظام الأسئلة أو المقررات (كإضافة مقرر للتفكير النقدي) يبقى الواقع قريبًا لما هو عليه، إذ يسعى الطلاب أيضًا إلى الحفظ سعيًا للأرقام، لأن النظام التعليمي مبني في النهاية على الدرجات، وهي ما تحدد التخصص الجامعي وتؤثر في المكانة الاجتماعية، فيلجأ الطلاب لبعض “الحيل” -إن صح التعبير- كحفظ استنتاجات جاهزة عوضًا عن تحليل المعطيات والوصول لنتائج يدويًا، ولا يوجد اهتمام بالمادة العلمية، فهي مجرد عبء ثقيل نحتاج إلى التعامل معه للحصول على درجات تساعدنا في الارتقاء مجتمعيًا، أو حتى من دون وجود سبب واضح، فنسير كما يسير الناس في المسار المحتوم.
تظهر نتائج ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي المليئة بالصراعات والإشاعات والاتهامات، فالخوارزميات تقوم بعملها على أفضل وجه، إذ تُظهر ما يقابل هوى المستخدم دون عرض للصورة كاملة، مما يخلق تصورًا مشوهًا عن العالم والناس، كأن الجميع يقف في نفس صفه، وحتى إن وجد من تجرأ على مخالفته يمكنه حظره في ثوانٍ معدودة، كما سبه والاستهزاء به في عالم افتراضي بكل سهولة، فتُعزَز تلك النظرة الأحادية للآراء والأفكار والمواقف، مع النفور من الآراء المختلفة فضلًا عن بناء رأي مركب.
خاتمة الآراء والمواقف المركبة هي قبول شيءٍ من أيديولوجية ما ورفض آخر، هي عدم الحكم على أحد بالانتماء إلى فِكر ما لجملة أو رأي قاله، هي وقوفٌ للفهم والتحليل للمضي قدمًا. عدم قبول أو استيعاب الآراء المركبة يضر المجتمع بأسره، ويوقف النقاش عند أول درجة له، فهو يتطلب استماعًا للرأي الآخر، ثم تحليله وفصل أجزائه، حتى يتسنى لنا الانتقاء منه وبناء رأينا وموقفنا الشخصي، وبالتالي نقف على نقاط الالتقاء والخلاف الحقيقية ونبدأ بالتقدم للأمام كمجتمع مترابط ومتكامل.