سياسة
“عزيزي الرئيس ترامب… أنا قادم من المملكة العربية السعودية، وبلدي محاط بنقاط ساخنة تتطلب اهتمامك الفوري واستمرار ما بدأته من قبل… أعتقد أن الله أنقذ حياتك ليس فقط للتعامل مع الوضع داخل الولايات المتحدة، والذي يواجه تحديات هائلة عليك التغلب عليها، ولكن لأن أمريكا هي ما هي عليه، للعمل مع أصدقائك في المملكة العربية السعودية وأصدقائك الآخرين في المنطقة، لمتابعة ما بدأته من قبل: جلب السلام، بأحرف كبيرة، إلى الشرق الأوسط”.
كانت هذه الكلمات جزءاً من رسالة “استجداء” طويلة نشرتها صحيفة “ذي ناشونال” الإماراتية الناطقة بالإنجليزية في الثامن من نوفمبر 2024 لما قالت إن رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل وجهها لترامب بعد فوزه الأخير في الانتخابات٬ ويبدو أن الرسالة المنسوبة للأمير السعودي لم تطالب فقط ترامب باستكمال مسيرة التطبيع٬ بل حملت إشارات للقضاء على المقاومة٬ ودعت الرسالة الرجل للعودة لما بدأه قبل خروجه من البيت الأبيض عام 2021 ٬ مع “وضع حد لأولئك يزعمون أن أمريكا في طريقها إلى تراجع”٬ على حد تعبيره.
حملت رسالة الفيصل -بعد التهاني والتبريكات بلغة تدغدغ عنجهية ترامب وغروره- استياءاً واضحاً من استمرار صمود المقاومة بعد عام من المعركة غير المتكافئة أمام الاحتلال٬ إذ يقول: “على الرغم من أن إسرائيل قطعت رأس قيادة حماس وحزب الله، فإن الأخير لا يزال قادرًا على قتل جنود إسرائيليين وإطلاق القذائف والذخائر الأخرى على إسرائيل. بعبارة أخرى، نحن في حالة اضطراب أكثر مما كنا عليه عندما كنت في الجناح الغربي”.
خلال عام من الحرب على غزة٬ تحدثت كتب ومقالات وتقارير غربية عن مطالبات السعودية ودول عربية أخرى في المنطقة٬ لـ”إسرائيل” والولايات المتحدة للقضاء على المقاومة٬ ولا عجب في ذلك المطلب٬ حيث أن “طوفان الأقصى” قلب الطاولة على الجميع٬ وأفسد حفلات التطبيع التي أطلقها ترامب قبل سنوات وتجاوزت القضية الفلسطينية وهدفت لمسحها بشكل نهائي٬ لصالح “مشاريع التنمية والاستقرار” مع نتنياهو.
والآن مع عودة ترامب وانتشاء قادة الاحتلال المتطرفين الذين لا يخفون كراهيتهم للعرب وتمني الموت لهم٬ ويحتفلون بقتل عشرات الآلاف من المدنيين في غزة ولبنان٬ يبدو أن السعودية “على استعداد لقطع شوط طويل نحو إسرائيل” كما يصفها بذلك الكاتب الإسرائيلي “عامير تيبون“. فعلى الرغم من انتقاد ولي العهد السعودي “إسرائيل” وحروبها بالعلن خلال القمة العربية٬ يقول تيبون إن “المملكة لا تقدم سوى خدمة لفظية لمعاناة الفلسطينيين، وهي على استعداد للتخلي عنهم من أجل اتفاقية تطبيع تاريخية مع إسرائيل ستجني منها أمريكا فوائد كبيرة”.
ويقول دبلوماسيون عرب وغربيون تربطهم علاقات وثيقة بالحكومة السعودية لصحيفة “هآرتس” إن الأمير محمد بن سلمان لا مشكلة لديه في التطبيع٬ وأوضح أحد الدبلوماسيين: “كان ابن سلمان على استعداد للذهاب بعيداً في التطبيع مع إسرائيل٬ لكن نتنياهو أصبح غير متوازن”٬ حيث أصبح الأمير السعودي يعبر عن إحباطه المتزايد من حكومة نتنياهو.
لكن رسالة الأمير تركي الفيصل الأخيرة تظهر أن السعودية تستجدي التطبيع بعد القضاء على المقاومة٬ وتطلب من ترامب إنجاز ذلك لها٬ وترامب بالطبع يريد تحقيق هذا “الإنجاز” وقطف “درة تاج” التطبيع مع “إسرائيل” التي لم يستطع خلفه بايدن جلبها. يريد ترامب صنع هذه الصفقة وتقديمها على أنها إنجازه الأكبر٬ وأنه المسيح المخلص لهذا الزمان وللمنطقة من كل الحروب والشرور٬ مع جلب بضعة مليارات للخزانتين الأمريكية والإسرائيلية كمقابل لمشاريع التنمية والازدهار وردع الأشرار٬ التي ستكون تحصيلاً حاصلاً لأي اتفاق تطبيع قادم سيشمل “بلاد الحرمين الشريفين”.
يحدث كل هذا في ظل مذبحة إسرائيلية تجاوزت يومها الـ 400 ٬ قتل وجرح خلالها أكثر من 150 ألف فلسطيني في قطاع غزة٬ ودمرت فيها منازل أكثر من مليون إنسان٬ تم تهجيرهم في الخيام٬ حيث يتلذذ جيش الاحتلال في قتلهم هناك كل يوم٬ بالإضافة إلى استمرار الاستيطان بالضفة وشرعنة ضمها لسلطة لـ”إسرائيل”٬ وبالإضافة إلى حرب مدمرة يشنها الاحتلال على لبنان٬ يقتل بها العشرات كل يوم في جنوب لبنان وبيروت.
وبينما تطالب الرياض بوقف العدوان الإسرائيلي وإقامة “دولة فلسطينية” -لا نعرف أين ستقام على أية حال- تبدو هذه التصريحات فاقدة لأي وزن أو معنى في ظل استجداء المملكة وعود التطبيع من الاحتلال ورعاته٬ في لحظة تتعرض بها القضية الفلسطينية لتصفية شاملة للأرض والمقدسات والإنسان. يكتب المرء هذه الكلمات والألم يعتصر قلبه٬ فمن يصدق أن هذه الرسائل المخزية تكتب وتمرر٬ وأن حفلات التطبيع -كحفلات الترفيه- تقام على مذبح أطفال ونساء من العرب والمسلمين في بقعة مجاورة اسمها غزة٬ من كان يصدّق أن هذا التتويج الفاضح للاستسلام والانبطاح الرسمي العربي٬ والذي يكرّس معاني التخلي والظلم ضد شعب عربي يُقاوم من أجل حريته وكرامته٬ سيحدث بهذا الشكل!