آراء

إحنا بتوع التوكتوك

نوفمبر 17, 2024

إحنا بتوع التوكتوك


“إحنا بنعمل حاجة؟ إحنا عارفين نعمل حاجة؟ أنا صعبان عليَّ أصلا إني أنا عايش ومش عارف أعمل لكم حاجة.. روح يا عم الله يسهل عليكم.. سامحوني يا بيه.. سامحوني أنا شخصيا، أنا مليش دعوة بأي شعب، بالشعب العربي ولا الشعب المصري ولا أي شعب.. سامحوني أنا شخصيا، أي حد تعرفوه قولوا له سامحوا السيد محمد عبدالمجيد.. سامحوه.. عشان أنا مش عارف أعمل لكم حاجة”.


لو كان في أدب العتاب والرجاء والاستسماح نصٌّ يلخص سلامة الصدر مع حرقته، وبساطة اللسان مع بلاغته، وصراحة السريرة مع خجلها، فلن يكون فيها أعظم من تلكم الكلمات التي خرجت من قلب سليم، مثقل بالأوجاع، وخجول من العجز، ويريد دفن رأسه في التراب من هول فاجعة الشلل، لرجل حكيم اسمه السيد محمد عبدالمجيد، يعمل سائقًا على “توكتوك”، ويالها من مهنة مضنية في مصر، منغمسة في الشارع لدرجة انعزالها عن الدنيا خارجها، غارقة في الهم بين البنزين والأجرة، والركاب المتعبين، الذين على أكتافهم هموم تزيد من الحمولة، فتتأرجح المركبة الوضيعة يمنة ويسرة حتى تصل بالكاد إلى وجهتها، وعلى ذلك كان السيد محمد عبدالمجيد ملمًّا بما يحدث، أفضل من كل من يتابعون الوضع ليل نهار، أفضل ممن يبيتون في الستوديوهات من أول الحرب، وأفضل من نُخَبٍ أكلوا على غزة وشربوا طيلة أربعة عشر شهرًا من التحليل والتثبيط والخذلان.


يحلّف الشاب الغزيُّ الحاج السيد، فيبكي على فوره وفي الحال، وهو لا يعلم من أول المشهد كله أن ثمة من يصوّر، تلك الزاوية بعيدة عن مظنّات “التريند” وتجار الشكوك والمزايدة، معنى ذلك البكاء المفاجئ -وأنا أعلمه جيدا- أنه على حافة القلب، على قارعة الفؤاد، لا يلبث أن يرجّه عابر حتى يفيض، فتنكسر سدود الوقار وجبال التماسك، وينهار الرجل كأنه طفل صغير، يعذّبون أختًا له وهو يراقبها ولا يعرف لها خلاصًا، حيث ثمة من يكبله هو أيضًا، بينما يحرقونها حيةً أمامه، قهر الرجال ذاك، وغصة النبلاء الشرفاء الماجدين، وجدعنة أولاد البلد، الذين لا يجدون شق تمرةٍ يدفعون بها عنهم النار حتى يدفعوها، فكان الرجل لا يريد أن يأخذ أجرته، بل ويطمع -والحياء يأكل وجهه بينما يغطيه بيديه- أن يسامحه أهل غزة بالاسم، أن يذهب إلى الله ويقول يا رب لقد سامحني عبدٌ لك من هناك، ذاق معهم الويلات، وفقد أهله وداره وماله وأحبابه، ثم استسمحته في نفسي، بعيدًا عن الشعوب، فسامحني!


في غمرة دموع السيد، لم يكن على خاطري أقرب من آيات الله عز وجل، في موقف المؤمنين الموحدين الصادقين مع رسوله، يوم جاؤوا إليه، ونزلت تلك الآيات العظيمات في سورة التوبة: “لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ۚ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”.


إن لم يكن ذلك أقرب تجسيد عملي لتلكم الآيات فماذا يكون؟ رجل من ضعفاء القوم، بسيط رقيق الحال، يبكي حزَنا ألا يجد ما ينفق إلا أجرته، ويبكي لأنه لا يجد ما يحمله إلى ساحات القتال والسجال، وتمنعه القيود الثقال، فيتولى ليكمل طريقه، وعينه تفيض من الدمع حزَنا، يبكي بكاءً مريرا يكاد يقتلع الحلق من فرط الغصة والاختناق، وهو يرجو أن يفهمه الراكب أنه والله لا علاقة له بأي خذلان، أنه بريء من تلك الجريمة النكراء، أنه لم يكن مع الخوالف وليس ممن طبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون.


أتذكر “إحنا بتوع الأتوبيس” الفيلم الأيقونة من بطولة عبدالمنعم مدبولي وعادل إمام وسعيد عبدالغني ويونس شلبي، الذي يحكي قصة هؤلاء القوم العاديين، البسيطين الشرفاء، غير الملوثين، الذين دفعوا ضريبة التعذيب في عهد عبدالناصر، وأريد أن أصرخ بأعلى صوتي لأهل غزة، وأقول “إحنا بتوع التوكتوك”، كلنا ذلك الرجل الذي يبكي حزنا وعينه تفيض من الدمع، يحدث نفسه بالغزو يريد أن يجاهد ولا يجد ما يجاهد من خلاله حق الجهاد، ينفق ما يملك، ويستسمح من يعرف، ويقاوم بما يجد، لكنه يريد أن يكون هناك، هناك، ولا يريد أن يلقى الله وفي عنقه خطيئة خذل ولا عار.


“إحنا بتوع التوكتوك” لا يمثلنا إلا نحن، لا المدججون بالسلاح النجس على الحدود يوجهونه لأهل غزة ويسلمون أقفيتهم للعدو وهم يطلبون الإتاوات على المعبر ليتاجروا بحياة الأبرياء الأعزة، ولا الذين يبيعونها في المحافل ويعرضونها في المتاجر ويعقدون على شرفها الصفقات، ولا الذين يتحدثون بلسان أعجمي رغم وجوههم الكالحة من سمرة البلاد، وهم يقولون ما لا يجرؤ السيد الأمريكي على طرحه من فرط الخيانة، ولا الذين يبيعون الوهم لمريديهم ويقبلون الدنيّة في دينهم ووطنهم وإخوتهم، لسنا أيًّا من هؤلاء، لأننا لا نملك ياقات بيضاء ولا مؤتمرات فسيحة ولا عواصم إدارية، ولا طائرات رئاسية ولا مواكب مئوية، بل نحن أصحاب هذا التوكتوك وركابه، نحن أبناء تلك الحارة لا غيرها، إخوتكم وأهلكم لا غيرهم، هؤلاء الذين يحملونكم فوق رؤوسهم، ويودون لو يحفظونكم في صدورهم، ويخزنون لأجلكم الثأر في أعماق أعماقهم حتى تحين الساعة.. يا أهل غزة “إحنا بتوع التوكتوك”.



شارك

مقالات ذات صلة