مدونات
الكاتب: محمد الميموني
في غزة؛ تلتحم الأرض مع أبنائها القابِضين على جَمر الصمود والثبات، هي قصةٌ لا تستوعبها صفحات الروايات، ولا تَسعها جُدران الحضارات، إنما تتناقلها أقدام من صمدوا على دروب النار، وترسمها أنفاسٌ خَطت على رمال النضال أثرا من نور. على تُخوم غزة، يعيش الإنسان أقداره بيقينٍ لا اعوجاج معه، وإيمانٍ لا التباس فيه، كأنما اختارهم الله ليكونوا شُهودا على أسمى معاني الصبر، في زمنٍ تعطَّلت فيه بَوصلة المسلمين، وتاهت عن منابع الثبات ومواطن الصمود، فصار الإنسان يدور في دائرة فارغةٍ من المعنى، يزِن قوة التحمل لديه من خلال الارتجاجات الصغيرة أو المؤقتة، فكيف لإنسانٍ أن يعيش صامدا في أرض تُمطر نارًا وبارودا؟
أما في شمال غزة… فقد تجلت لنا أزمة الوجود لدى المحتل بشكلٍ واضح، حيث يجد نفسه غريبا عن المنطقة ثقافيا ودينيا ولغويا، فيعيش في حالة من الصراع الوجودي، وسط شعبٍ مقاوم لا يسعى للبقاء فقط، بل لإعادة تعريف علاقته وارتباطه بالأرض، الشيء الذي يجعل المحتل الغريب أمام واقع مُرٍّ يهدد عرشه الذي أقامه على أنقاض شعبٍ تمتد جُذوره في الأرض إلى تاريخ سحيق، وهذه العُقدة الوجودية ليست بجديدة، بل هي قديمة تُعشعش في أعماق كل كيانٍ مُحتل، وقد بدأت بوادر ظهورها عند المحتل الصهيوني مع اختراع فكرة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، والتي أراها خلافا لما هو معروف، على أنها دعاية صهيونية استخدموها لتبرير استيطانهم على أرض اصطدموا بها فوجدوها “خالية”، لأن فلسطين مأهولة بالسكان وما زالوا يعيشون فيها حتى اللحظة، فإن كانت الأرض خالية وقت احتلالها فمن أين جاء الفلسطينيون؟
فهذه الدعاية تُفصح في عمقها عن مخطَّطٍ قادمٍ رسموا خارطته في عقولهم، يعلمون أنه يجب أن يكون حتى تقبلهم الأرض الصماء، وهو إخلاءها من ساكنيها بالتطهير العرقي، لأن الارتباك الوجودي يفرض عليهم ذلك حتى لو كان بطريقة وحشية، فالشعب الفلسطيني يجب ألا يكون في أرض فلسطين، حتى يستطيع المحتل أن يهنأ بعيشه ويأمن على حياته، ولكن في هذه الاستراتيجية إشكالية كبيرة ما زالت تُطاردهم، فالقوة الوحشية ضد أي شعب، قد لا تُنتج ضعفا واستسلاما إلا على من سبق فيهم التوحش الدموي بشكل مُفاجئ، وأما الأجيال التي تليهم، فإنها ستمتلك خِبرة ومعرفة ومناعة تُحصنها من الخوف والتراجع والرضوخ، وستكبر على أحقاد مُكدَّسة في الأعماق لا قِبل للمحتل بها.
في الشمال.. تحمل الرياح معها رائحةَ الدم، وتُلوِّح بها في وجوه المتخاذلين، علَّهم يُدركون أن ما يحدث هناك يفوق قدرة الألباب على الفهم والاستيعاب، ففي تلك البقعة الطاهرة لا تُقاس الحياة بعدد الأيام، ولا تُضبط على إيقاعات الزمن الممتد، بل تُوزن بقوة التحدي والقدرة على التحمل وسط الواقع المأساوي من كل جوانبه الإنسانية، وهذا تجسيد لتلاحم الأرض وانصِهارها في أعماق الإنسان، ففي كل حَجرٍ يتجلى تاريخ وذاكرة، لذلك ليس غريبا أن يرفض أهل الشمال ترك ديارهم رغم الحصار والتقتيل والتجويع، فهم يدركون أنهم وسط واقع تشكَّل على أيدي أفرادٍ ساديين يتلذذون بمشاهد الدماء، حيث تتردد فيه أصداء الممرات الآمنة بين الركام، ولو أنهم أسموها “ممرات الموت” لصدقوا وصُدِّقوا، وهذا ما يجعل أهل الشمال لا يبحثون عن سلامة أجسادهم، بل عن خُلود موقفهم أمام ثورة عدوٍّ هائج، لا تنحني لهم هَامةٌ ولا ينكسِر لهم عزم، وهذا الصمود ليس اختيارًا يطلبون به الموت، بل هو واقع فَرضته عليهم آلة القتل الصهيونية، فلم يعد حب الحياة عندهم يُراد به العيش تحت نِيران الظلم والإذلال، بل العيش بكرامة وعزة لا تقبل المُساومة، فصارت نفوسهم عصِية عن الضعف والانكسار.
هكذا يكتب الشمال سيرته الخالدة؛ بين جدارٍ يتهاوى ونبض يُصر على الحياة، إنه يُعلِّم العالم معنى أن يكون للإنسان جذرٌ لا يُقتلع، وصبر لا يَنقطع، وهوية لا تُبتلع، لقد تحول شمال غزة إلى رمز حقيقي للثبات، يتحدى كل المعادلات التي حيكت ضده لتصنع من آلامه ضعفا، ومن جرحه تراجعا وانكسارا، مؤكدا أن نبض الحياة لا يتوقف رغم فداحة الجراح، بل تتجسد فيه أسمى معاني الصبر والمقاومة، ويُكتب في التاريخ بأحرف من دمٍ وروح، لا تُمحى مهما حاولت رياح الخذلان أن تطويها، وتسطر فصلًا جديدًا في حكاية الصمود الأبدي، حيث يصبح الألم مفتاحا للأمل، والجرح جسرًا للانتصار.