سياسة
لا أظن المؤسسة العسكرية المصرية في وضعية أدق مما عليه حالها الآن. تلك المؤسسة التي حملت على مر التاريخ المصري الحديث منذ إنشائها عقيدةً قتاليةً راسخة وأبجديات وأدبيات تضع على كاهلها أمانة حماية دولة بحجم مصر في كل حقبة وتحت كل نظام. مصر التي تحدق بها المطامع والتهديدات الأمنية والعسكرية والسياسية من كل حدب وصوب. فهل مازالت العقيدةٌ المحركَ لهذه المؤسسة المتجذرة في عمق الدولة المصرية وكل ما تحمله من قامة وقيمة وكلمة كانت مسموعةً ودورا كان لا غنى عنه؟ أم أن مواءمات الربح والسلطة فضلاً عن إعادة تموضع مصر إقليمياً ودولياً في العهد الحالي أخلت بمهمتها الرئيسية بالحفاظ على تراب هذا الوطن؟ في هذا المقال أحاول الإجابة بموضوعية عن الشق الداخلي عن هذه الإشكالية الدقيقة.
نقطة نظام
لابد لأي مجتهد يكتب عن مؤسسة تُبقي على هيكلها و مشروعاتها وميزانيتها وأرباحها في طي الكتمان الشديد، وغياب كامل للشفافية أو حتى الخضوع لأي أداة رقابية – لا بد له أن يعرف مكمن الضعف قبل القوة. صحيح أن وزارات الدفاع تتكتم في الغالب على قدراتها العسكرية والتسليحية لأسباب أمنية مفهومة، لكني أتحدث هنا تحديدا عن تعتيم المؤسسة العسكرية المصرية على ميزانيات مشروعاتها الاقتصادية التي تغولت على القطاعين العام الخاص وعلى أرباح هذه المشروعات ومردودها على الدولة والمواطن.
المستهدف من هذا المقال ليس بحثا تاريخيا، فمن هُم أفهم وأعلم، كرسوا وقتا طويلا للتأريخ لمنشأ المؤسسة العسكرية المصرية وتطوراتها بما يخدم البحث العلمي والعلوم الاجتماعية، أبرزهم الدكتور خالد فهمي الباحث والمؤرخ والدكتور يزيد صايغ الذي انفرد بمساءلة العلاقة بين الجيش والاقتصاد المصرييْن في أوراق بحثية رائدة، وآخرون.
السيادة واحتكار العنف
التعريف الواقعي الكلاسيكي للدولة ذات السيادة، يقضي باحتكار العنف أو قصره على الدولة بمفهومها الحرفي. فالدولة توكل لنفسها أو لأجهزتها أدوات العنف في حدود لا تهدد سلطتها. تطور هذا المفهوم الكلاسيكي حينما تغير مفهوم الحرب الشاملة إلى حروب جزئية أو نوعية، أو تلك التي تستعين بالسلاح الخاص (شركات الأمن الخاص والمرتزقة مثالا) أو غيرهما. خروج أدوات العنف عن القانون أو عن يد الدولة دون قرار تهدد سياسة الدولة – أي دولة. لأجل ذلك تقامر السلطة الحالية بتهديد سيادة ”الدولة المصرية“ بتأسيسها كيانات سلاحُها لا يتبع الدولة رسميا. كيانان شديدا الخطورة، جيش رديف (العرجاني) وأمن رديف (نخنوخ). كون هذه الميليشيات غير تابعة لإمرة الجيش المصري مباشرة، يشي بأنها اختُلقت لحماية ”النظام الحاكم“ وليس ”الدولة“ والفارق كبير.
الارتباط العضوي بالنظم المتعاقبة
الأساس في عمل الجيش لأي دولة المحافظة على حدودها والدفاع عنها ضد أي اعتداء خارجي. أظن أن الجيش بعد حركة الضباط الأحرار سنة ١٩٥٢ انفصل كمؤسسة، وحتى كطبقة اجتماعية لا تخضع لضوابط البيروقراطية المصرية عن ”الدولة“ لكنه عظم التحامه ب ”النظام الحاكم“، على عكس مؤسسات أخرى – الدبلوماسية المصرية – مثالا لا حصرا.
سلوكيا، تغير مدى توغل مؤسسة القوات المسلحة المصرية في السياسة الداخلية حقبة تلو الأخرى، لكنه ثبّت في الوعي الجمعي صورة أفضل بكثير من مؤسسة الشرطة. بالنسبة لكل نظام حاكم في مصر، كانت مسافته من المؤسسة العسكرية قيمة معيارية مضطردة، بعضها حدد مصير النظام نفسه.
المؤسسة العسكرية وطبقية السلطة والثروة
أسس نظام جمال عبد الناصر بتعبئة كاسحة لمشروع صناعي ربط الشعب بالقوات المسلحة في ملحمة انتهت في ١٩٦٧ – عام النكسة. أظن أن أفضل سنوات حكم عبد الناصر والجيش المصري في آن معا كانت أعوام حرب الاستنزاف، إذ استفاقت المؤسسة العسكرية بدءا من عبد الناصر نفسه ثم المشير عبد الحكيم عامر انتهاء بمن هو أدنى في طبقية المؤسسة على حقيقة واحدة. نجحت القوات المسلحة في المشروع الصناعي – أو هكذا بدى- وأخفقت في تكليفها الأساسي بالحفاظ على أرض مصر.
تركت المؤسسة العسكرية المصرية جرحا غائرا لا يندمل في الوعي الجمعي. أفقدته الثقة في النظم المتعاقبة لحد بعيد. على أي حال استمرت متلازمة النظام الحاكم والمشروع الصناعي قائمة. تأسست المصانع الحربية فكان للمؤسسة العسكرية ربحٌ لم يخضع للرقابة من خارج المنظومة. بينما قرر أنور السادات تطبيق سياسة الانفتاح فاستقلت المؤسسة العسكرية المصرية بمشروعاتها عن دورة رأس المال الوطني وحتى عن ميزانية الدولة. ثم خطى مبارك على نهج سابقيْه بحذر، وكرس لتربح المؤسسة العسكرية بين الطبقات الأعلى من المشروعات الصناعية وقطاع الأعمال. مبارك كان يخشى انقلاب المؤسسة العسكرية عليه، فاستغل موقفا اتخذ فيه المشير أبو غزالة قرارا بتحريك الجيش لحماية منشآت الدولة إبان انتفاضة مهمة لجنود الأمن المركزي، كشفت طبقية المؤسسة العسكرية فامتدت للمحافظات – استغلها مبارك لعزل المشير واستبدله بالمشير طنطاوي لضمان استتباب الحكم له وتثبيت المؤسسة العسكرية عند حدود لا تقلقه. تعاظمت مكاسب الرتب الكبرى في الجيش في عهد أبو غزالة، فاضطر مبارك للإبقاء عليها ليأمن شر الجيش.
هذه المتلازمة بين المؤسسة العسكرية والسلطة والثروة هُزت مرة حين هدد مشروع توريث مبارك لنجله عرش المؤسسة العسكرية، ما يعني أن يكون لرأس المال الكعب الأعلى على الجيش، ثم هزة ارتدادية في عام حكم الإخوان حين تواطأ الإخوان مع المجلس العسكري على الصف المدني. اعتقد تنظيمُ الإخوان المسلمين في سنة حكمِهم أن شراكة جديدة ستؤسس بين الإأخوان والمجلس العسكري، تؤمنهم وتثبت حكمهم، لكنهم كانوا واهمين. وقع الإخوان في الشرك وافتقر النظام الحاكم في عهدهم للحد الأدنى من السيطرة على العنف المقنن. فمؤسسة الجيش وكذلك الدولة العميقة (المخابرات) ورأس المال اجتمعوا على إزاحة حكم الإخوان. ثم جاء عبد الفتاح السيسي ليحول الانتزاع المتدرج إلى ضربة خاطفة وقاضية، اتخذ بحركة مباغتة من الرافعة الشعبية شرعية حتى بعد مذبحة رابعة العدوية. فاطمأنت المؤسسة العسكرية، وبدأ أزهى عصورها تمددا حد الاحتكار، وسلطة وربحا من دون رقابة.
ثورة الخامس والعشرين من يناير بين الجيش والشرطة
اخترت انتفاضة الخامس والعشرين من يناير نقطة تحول في المؤسسة العسكرية المصرية لأسباب أفصلها. وقد شهدتها بعيني خلال مهمتي المهنية في تغطية ثورة الخامس والعشرين من يناير، وكنت فوق الميدان ليلة الحادي عشر من فبراير ٢٠١١ لحظة إعلان المجلس العسكري تنحي حسني مبارك. انتصرت مصر المدنية على المؤسسة والنظام الحاكم والدولة العميقة. كانت لحظة سانحة لم تتكرر. كتب الميدانُ في القاهرة والسويس والمحلة الكبرى ملحمة ثورية حقيقية، حفر الميدان اسمَه بحروفٍ باقيةٍ بقاء الزمن في تاريخ مصر.
لم يخرج الجيش من ثكناته ليساند انتفاضة يناير التي تحولت لثورة حقيقية لم تجد من يصل بها لبر الأمان رغم محاولات سياسية عديدة محترمة. وأَختلفُ كثيرا مع من يرون أن المؤسسة العسكرية المصرية تواطأت مع نظام مبارك حتى لحظة النهاية، بل ويرون أنه بعد إشارة باراك أوباما ”الآن يعني الآن“ واءم الجيش مع التغير المزلزل بموقف واشنطن وتخلى عن مبارك. لازلت أرى أن الضغط الشعبي هو الذي أزاح مبارك دون دولته للأسف. خشيت المؤسسة العسكرية المصرية على مكتسباتها، مدركة أن زمام الدولة في يديّها والمخابرات، فتركت مبارك يهوي من الارتفاع الأقصى. الحقيقة أن تغير الموقف الأمريكي حدث أمام انتفاضة شعبية ونخبوية حقيقية، نجحت في الضغط على المؤسسة العسكرية واستقطبت الإخوان المسلمين. كل ذلك أفضى بواشنطن إلى إعطاء الضوء الأخضر للمجلس العسكري المصري للتغيير الحتمي الذي حفره الثوار وختموا عليه ختما خالدا.
العشاء الأخير
ليلة تخلت فيها المؤسسة العسكرية عن حسني مبارك ومشروع التوريث لتحافظ على بقائها وسلطتها وطبعا أرباحها . أتحدث عن قرار المؤسسة العسكرية إنزال الجيش للميدان. أوكلت المؤسسة العسكرية لنفسها التدخلُ المباشر في السياسة الداخلية في مصر. عقيدة الجيش المصري كان لها أثرٌ عميقٌ يوحي بالثقة للأغلبية من الشعب المصري. عقيدة كان لا يسائلها أحد خلال حروب ثلاث أبلى فيها الجيش المصري بصرف النظر عن منتهيات كل حرب بلاء تحركه هذه العقيدة فقط. ربما ساءت القيادات والساسة، لكن المقاتل المصري شديد الوطنية حد الشوفينية.
بعد تنحي مبارك لم تسلّم المؤسسة العسكرية السلطة إلى أي جهة مدنية – على غيار ما حدث في تونس- بل احتفظت بها وأسست لعام من الانفراد الكامل بالقرار، على غرار تمرير تشريعات قانونية ودستورية مازلنا نعاني منها كالحبس الاحتياطي الممتد، فضلا عن كونه عاما من أكثر أعوام التوحش في التعامل مع المتظاهرين خاصة السيدات وصلت لحد كشوف العذرية التي دافع عنها الرئيس الحالي علنا، كما أقيمت المحاكمات العسكرية للمدنيين بسبب وبلا سبب.
عقيدة الجيش المصري
تزعزعت هذه العقيدة في سنة حكم المجلس العسكري والرئيس المؤقت عدلي منصور وإن استدام أثره الكارثي على القضاء والقانون والتشريع في مصر. بعد هذه الهزة لهيْبة المؤسسة العسكرية من حيث المبدأ، امتدت يدا المؤسسة لعمق السياسة المصرية بالموالسة مع الإخوان المسلمين إبان ما اعتقدوه حكمهم. عام لم يثمر إلا انهيار الإخوان المسلمين بعنف تحت الضوء والضغط، بعد عقود عملوا فيها كتنظيم سري. فشلوا وأطلقوا ميليشيات أججت الرأي العام والمجتمع المدني والحركة الثقافية ضدهم. ثم خرج علينا رئيس المخابرات العسكرية، وزير دفاع الإخوان المسلمين عبد الفتاح السيسي من ظلال المخابرات الحربية للعلن، ليؤسس لمرحلة هي الأسوأ في تاريخ مصر المعاصر، عشر سنوات، عقد مليء بالمظالم والثأر والانحيازات والفساد والقمع وإغلاق تام للمجال العام، وبيع المكامن الاستراتيجية المصرية عمدا وبتدرج لا تنكره عين. حتى الموتى في الجبانات والآثار المصرية والأشجار لم تسلم من التدمير.
السيسي ودولة ”الإنجازات“ بالأمر المباشر
تألق الرئيس الحالي حقيقة في فرض حصانة للجيش وقوات الأمن الوطني، بل ولكل من يرتدي حلة عسكرية، أمنتهم تماما من أي رقابة أو محاسبة. تأصيل ما يعرف الآن ”بصندوق تحيا مصر“ كان تطويقا لرأس المال غير العسكري وتطويعا له بالكامل. أصبحت كل الموارد في يد نخبة مؤسسة القوات المسلحة، لتبدأ مرحلة مختلفة تماما أسست لارتباط عضوي شديد العدوانية تجاه رأس المالي الوطني بين مشروعات الجيش ورأس المال السياسي. استغنت هذه الدولة القائمة على تلك المتلازمة عن دراسات الجدوى والتنافسية، من ثم حصر الربح والسلطة في يد النظام.
بدأت المشروعات بالأمر المباشر لعدة سنوات من الباطن مستظهرة رجال الأعمال والمقاولات في الواجهة، ثم انفرد الجيش حرفيا بقطاعات واسعة صناعية واستثمارية. أصبحت كل مشروعات مصر تقريبا حكرا حقيقيا للمؤسسة العسكرية وأدواتها. ثم استُولد من هذا الاحتكار الاقتصادي الكبير احتكارات أصغر. تحول الاقتصاد المصري من دولة ”إما معنا أو علينا“ لدولة ”أنت معنا وإلا“. هذه المعادلة استمرت حتى وقت قريب جدا، حتى إن من يصنف في خانة ”معنا“ أصبح يخشى الانفصال ولو حتى جزئيا على المؤسسة ومشاريعها ويدها الثقيلة كي لا يقع في المحظور. الدكتاتورية العسكرية انفردت بكل شيء فيي مصر، حتى العمل السياسي العام. السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة. وفي هذا المقام مقالٌ قريب ”إن عشنا“.