مدونات
هي المعول الذي يستله الأعداء للنيل من الصالحين، والخنجر المغروس في ظهر المجتمعات، فلولا الخيانة ما عظمت سطوة الظالم، وما انتشى المعتدي وتجبر على الضعفاء وتوحشت شهوة طمعه وانتزع حقوق الآخرين. فالخيانة وأخواتها كالغدر والنفاق والمكر والخديعة والكذب تضعف الإنسان أمام خصمه، ويصبح من السهولة بمكان تدمير المجتمع ونخر بنيانه فتسود الفوضى وتنعدم الثقة بين أفراده، ويتسلق المرتزقة المناصب ويتحكم الجشعون بمقدرات الوطن ومعيشة العباد، وتهون الأخلاق الذميمة ويتكالب الغادرين على ذوي النبل والصلاح، ويعير المرء بحسن الخلق، فيغدو أهل الخير مطاردين منبوذين يملأ قلوبهم القهر والذل، فلا يواسيهم غير قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في شأن الخونة ومن على شاكلتهم: “إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان” رواه الشيخان.
إنها بلا ريب أدني خلق قد يتخلق به أي من البشر، ومن ألد أعداء أهل الإيمان والتقوى، وأصحاب الخير والطاعة ومن في قلوبهم بقية من إنسانية سامية. فعلى مر العصور شهدت المجتمعات البشرية أشكالاً وصنوفاً من الممارسات الخيانية، فواجهت من استمرؤوا ذلك الخلق القبيح بالاستهجان والذم والتقريع والعقاب والنبذ حتى بعد وفاته، ويصبح أيقونة في الغدر ومساوئ الخصال.
ففي سنة اثنتين وأربعين وستمائة، استوزر الخليفة المستعصم بالله ابن العلقمي الذي سهل الطريق أمام المغول لاحتلال بغداد وإسقاط الخلافة العباسية، فمؤرخو تلك الحقبة رصدوا بدقة الأهوال التي صُبت على رؤوس أهل العراق، وقتما اجتاح المغول بغداد عاصمة الخلافة العباسية، والفظائع التي ارتكبوها بحق الأبرياء من الأطفال والنساء وحتى الرجال. و نعرج هنا إلى أشهر حادثة للخيانة أبت إلا وأن تلصق بكبيرها “أبو رغال” الذي أرشد أبرهة الأشرم إلى مسلك الكعبة لهدمها، لكن عقاب الله لأبرهة وجيشه كان أسرع مما يتصور، فرجع خائباً خاسراً منكفئاً على ذاته.
ومن أعظم حوادث الخيانة مكراً وحقداً، خيانات يهود خيبر وبني قريظة وبني النضير للرسول صلوات ربي وسلامه عليه، ولم يفلتوا بخيانتهم فقد كان حسابهم عسيراً، تعرضوا لأقسى هزيمة طبعت في ذاكرتهم لأجيال قادمة.
وما الوزير الفاطمي “شاور” في مصر، إلا فصلاً من فصول الغدر و الخيانة، تحالف مع الفرنجة الصليبيين وعقد معهم معاهدة دفعت بموجبها مصر الجزية للجيوش الصليبية والتي كان بحوزتها مفاتيح الفسطاط.
ويروي لنا التاريخ كيف سقطت الأندلس بسبب الخيانة، ابن الأحمر حاكم مملكة غرناطة، بعدما حاصر القشتاليون غرناطة سنة ١٢٤٤م، وأدرك أنه عاجز عن التصدي لجيش ملك قشتالة، أبرم معه معاهدة تنص بموجبها على تسليم ابن الأحمر مدن جيان وأرجونة وبلكنة وبيع والحجار وقلعة جابر ومناطق شاسعة من دولة المسلمين في الأندلس، مقابل جزية سنوية قيمتها مائة وخمسون قطعة من الذهب لملك قشتالة فرناندو، وأن يسمح له أن يحكم مملكته وضياعه، واستمر مسلسل التنازل شيئاً فشيئاً إلى أن ضاعت الأندلس من أيدي المسلمين!!
ولم تكن الخيانة حكراً على بلاد الإسلام، فقد ابتليت أوروبا بخيانات هزت كيانها، فها هي فرنسا تجرعت من كأس التآمر والخداع، فثوراتها المتعاقبة كان لها نصيب ثقيل من سلالة الخيانة، روبسبير أكثر الشخصيات تأثيراً على الساحة الثورية، أحد قادة الثورة الفرنسية البارزين الذي دعا إلى إسقاط الحكم الملكي، انقلب على قيم الثورة، فبعد توليه الحكم عقب سقوط الملكية وإعدام الملك لويس السادس عشر بتهمة الخيانة العظمى، وبعده بعدة أشهر أعدمت زوجته ماري انطوانيت بذات التهمة، في غضون عامين مدة حكمه قتل روبسبير ما يزيد عن ٦ آلاف شخص، فأوجست قيادات الثورة ورفقاء الأمس منه خيفة، فقررت التخلص منه فأعدموه بالمقصلة، وكذلك لاقى جورج دانتون وكامي ديمولان رفقائه نفس المصير! تلك هي فرنسا المتشدقة بالحرية، فإبان استعمارها للجزائر قمعت الثوار الجزائريين قمعاً وحشياً لا يمت للإنسانية بصلة، فشجعت الخيانة وباركتها فكم من عميل خان وطنه قلدته فرنسا أرفع الأوسمة والنياشين، أما الأبطال المدافعين عن وطنهم صاروا أرقاماً في متاحفهم البائسة.
ولم تنأى الخيانة الوطنية عن حرب الاستقلال الأمريكية ضد المستعمر الانجليزي، لبينديكت أرنولد القائد الأشهر في حرب استقلال أمريكا من قبضة الاستعمار الإنجليزي، قرن اسمه كجنرال في الجيش القاري الأمريكي، خطط لتسليم حصن ويست بوينت للقوات البريطانية، فارتبط اسمه بالخيانة في التاريخ الأمريكي والتآمر مع بريطانيا، وكمكافأة له عين في الجيش البريطاني برتبة عميد. وبريطانيا نفسها اكتوت بنار الخيانة في حروبها ضد فرنسا و حرب الجواسيس في الحربين العالميتين الأولى والثاني.
هو الغرب بازدواجية معاييره ونفاقه الفاضح، يبغضون خونتهم، ويمجدون خيانات الآخرين تلبية لمنافعهم، وما اعتلى الغادرين والمخادعين والخبثاء مقاليد السلطة وشؤون الرعية في مجتمعات بعينها! إلا من وحي خدماتهم الجليلة لأعداء بني جلدتهم ومناوئي أوطانهم.
أوروبا بقبحها تزكي المكر وتزدلف الوضيعين في بلادهم، وتعلي شأن سفلة الأقوام وأذنابهم، لا تتورع عن انتهاج أخس وأقذر الطرق لتحوز على مبتغاها، فكم من بلاد خربت وأرواح أزهقت وأقلام كسرت وميادين حرية حوصرت، لتدوم مصالحهم ويظلون أسياد العالم رغم أنف الخلق.
وفلسطين الشاهد الحي على جميع صنوف الخيانة، باختلاف نحلها ومللها ومذاهبها، وما عوقبت وانتهكت حرماتها وداست كرامتها بساطير العنجهية والغطرسة، إلا لأنها طاهرة عنيدة صعبة المراس بأبنائها، ولأنها الحكم المنصف على غدر بني صهيون، الذين حلوا على أرضها على هيئة مساكين وفقراء بثيابهم البالية وأقدامهم العارية، كانوا يقبعون على قارعة الطريق في نواحي القدس وضواحيها ومدن فلسطين، يستدرون العطف من أهلها، فأشفقوا عليهم وقدموا لهم ما قسمه الله بنفس عفيفة كريمة، ودارت الأيام فقوت شوكتهم فعضوا اليد التي امتدت لإطعامهم وفقعوا العين التي دمعت لبؤسهم، وطعنوا القلب الذي رأف بحالهم، وقطعوا اللسان الذي واساهم بكلمة طيبة، ومزقوا جسد ذاك الطفل الذي قدم لأطفالهم قطعة حلوى إلى أشلاء وقطع، انقلبوا على أعقابهم وسرقوا الأرض واستعبدوا العباد، فتشرذم الأهل والأصحاب، واستوطن الساقطون المدن ومحقت خيراتها وسحقت ثرواتها وخربت عمائرها، واستبيحت مقدساتها وأجرموا أيما إجرام في أرجائها، فاشرأبت الأعناق لهول مصاب أهل فلسطين وعظم بلائهم. فلما رأى رجالات فلسطين ما كان من غدر اليهود و تواطؤ الإنجليز ومن خلفهم أوروبا، هبوا للدفاع عن حياضهم ورد عدوان الباغي عن ديارهم وأبنائهم، فأعملت عصابات اليهود القتل والتذبيح فيهم، واقترفوا أبشع المجازر وأفظع المذابح، فاستغاثوا بأخوة الدم والدين، فمنهم من نصر ومنهم من تراخى وخذل.
اشتد الخطب على أهل فلسطين فاشتعلت ثورة ١٩٣٦، وسطر المقاومون بطولات وتضحيات أذهلت الغائب والحاضر، وكان الشعب الفلسطيني قاب قوسين أو أدنى من النصر وتحرير الأرض الطاهرة من دنس أولاد الأفاعي، فالتف على ثورتهم من التف، وبذل لهم معسول الوعود، منطوقها أوقفوا ثورتكم وسيتم تلبية مطالبكم فوراً، فخضع ثوار فلسطين البواسل لوعود من هم المفروض أنهم أهل ثقة وبصيرة قريباً كانوا أم بعيداً. وبمجرد أن توقفت المقاومة، شرعت القوات الإنجليزية والعصابات اليهودية ملاحقة الثوار وقمعهم بعنف وقسوة، فتبددت الوعود وتلاشى حلم الخلاص من المستعمر، وانتهت بذلك أروع ملاحم الحرية سطرها مجاهدي فلسطين بدمائهم وأرواحهم، سيسجلها التاريخ العربي والإسلامي بماء الذهب، وأعقبها معارك بين الثوار من ناحية والإنجليز واليهود من ناحية أخرى، فكتب الشهيد الشجاع عبدالقادر الحسيني كلمات تؤرخ تلك الحقبة العصيبة من النضال الفلسطيني الفتي آنذاك ، برسالة أوجز فيها أسباب ضياع فلسطين.
فنزل تسليم الإنجليز فلسطين لليهود كالصاعقة على أهالي فلسطين، فهم خبروا خلق اليهود ويعرفونهم جيداً، و بدأ الصراع الصفري ودارت رحى معارك شديدة وضارية، حفر المجاهدون بأظفارهم ودمائهم مسيرة طويلة من الكفاح والنضال الوطني الوفي، والعذاب والأسى والخذلان يسقط على رؤوسهم كقطع الليل المظلم. ومازالوا على العهد حتى يقضي الله أمراً كان مفعول، وتكتحل عيونهم باسترداد الأرض وعودة الأقصى منارة للعلم والحضارة.
وهكذا فإن الخيانة ومرادفاتها من الخديعة والمكر والغدر والتآمر، تلقي بصاحبها إلى هوة سحيقة من الخزي والعار في حياته ومماته، لا تذكر سيرته إلا وسمت بأقذع الصفات وأخس سمعة وأوضع صيت. فمهما أراد المرء أن يضع وصفاً دقيقاً للخيانة، لن يستطيع أن يلم عواقبها الوخيمة على الأوطان والمجتمعات، فكم من حقوق سلبت وأرواح أزهقت ودماء أهرقت وأبرياء سجنوا بدعوى الوطنية وسجانيهم هم بعينهم الخونة الحقيقيون خانوا كل قيمة ومبدأ إنساني سامي.