مدونات
الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي
يقول الفيلسوف والمفكر الألماني الأمريكي هربرت ماركوز: “لقد أصبح الأفراد في المجتمعات الرأسمالية الحديثة أدوات طيعة في يد المؤسسات والشركات الكبرى، يفقدون حريتهم تحت وطأة استهلاك متواصل يجعلهم يعتقدون أن السعادة تقاس بما يملكون، لا بما يشعرون”.
في عالمٍ تغطيه أوهام الرفاه، يسير الناسُ كقطعٍ من آلةٍ ضخمة، يُسكب عرقهم لينساب بين تروسها التي لا تعرف توقفًا. هنا، في هذا النظام الرأسمالي الاستغلالي، تُباع الأحلام في عبواتٍ لامعةٍ، وتُقتصَر السعادة على من استطاع شراءها. لكن، وراء هذه الواجهة اللامعة، تزحف المعاناة كظلٍ طويلٍ، مرافقٍ لكل من أُجبر على أن يكون ترسًا صغيرًا في محركٍ عملاق، يصطك بأسنانه ليل نهار في دوامة الاستغلال، يقول كارل ماركس في هذا الصدد: “إن النظام الرأسمالي يُرغم العمال على العمل ليس لمجرد الكسب بل لأنهم لا يملكون شيئًا سوى العمل، فحياتهم تدور حول الإنتاج من أجل بقاء الآلة الرأسمالية”.
حين يُولد الإنسان في أحضان الرأسمالية، يُسلم للآلة التي تبدأ فورًا في نقش أرقام عليها، قيمته وتكلفته، وتبدأ في تشكيله بما يناسب أغراضها.. يصبح هو مجرد رقم في منظومة تلتهم الأفراد وتقيّمهم بمقاييس الربح والخسارة، لا حساب هنا للروح، ولا قيمة للمشاعر؛ فقط إنتاج ثم إنتاج، كأنما الحياة مجرد جسر نحو عمل لا ينتهي، ورحلة متواصلة بين الاستيقاظ والتعب.
هذا ما أكده نعوم تشومسكي بقوله: “في النظام الرأسمالي، تُعتبر القيم الإنسانية والعلاقات الاجتماعية ضحايا ثانوية لآليات السوق، حيث يصبح هدف النظام هو الربح وليس رفاهية الإنسان”. وكلما كبرت الآمال وتفتحت أمام الناس سُبلٌ جديدة، كلما ازدادت المطاردة.. يسعى الإنسان إلى كسب قوته، لكن سعيه هذا يشبه مطاردة ظلّه؛ يتقدم، ويتسارع، لكن كُلّما اقترب، تهرب الحياة نحو شيء أبعد.. هنا، تكمن المأساة الكبرى: يتحول الإنسان إلى سجين رغباته، مسجونٌ في سجنٍ من ضغوط الديون، والمنافسة المستعرة، والصراع اللامتناهي على لقمة عيشٍ مُغلفة بمطالب الحياة المادية، كما يقول سلافوي جيجك: “إن الوهم الذي تخلقه الرأسمالية لا يجعلنا نتحمل الحياة فقط، بل يُرغمنا على حبها في ظل العبودية، ويجعلنا نتمسك بأوهام الرخاء حتى ولو على حساب حياتنا”.
في هذا النظام الاستغلالي، لا يملك الفقير رفاهية الحلم، بل يعيش على حافة الواقع، يلاحق فتات الفرص ليجد نفسه في النهاية يجاهد للبقاء، مجرد بقائه! أما الأحلام، فهي مخصصة لأولئك الذين يستطيعون الدفع، الذين يحجزون في عالم الرأسمالية مقاعدً ببطاقات ذهبية، ويضعون أيديهم على ما يملك الباقون حقهم فيه.. هنا، تتجلى المأساة، فالرأسمالية تجمع بين المتناقضات: تراها ترفع قيم الكدح والعبودية بيمينها، وتقتلع بهدوء أمل الفرد العادي بيسارها..
هذا ما عبر عنه فريدريك نيتشه بالقول إن “النظام الرأسمالي يجعل الإنسان عبدًا للمال والسلع، فيدمر روح الإبداع ويحول البشر إلى عبيد لحاجات وهمية”. ليس الأمر فقط قسوة عمل، بل أسلوبٌ كامل يجعل القلوب تصير أشبه بمصانع، تعمل وتُستنزَف حتى تجفّ.. تتآكل الأحلام الصغيرة، فتلك الهواية التي أراد أحدهم متابعتها تصبح رفاهية، والأصدقاء الذين يود آخر أن يلتقيهم يتحولون إلى وقتٍ ضائعٍ، وراحة العقل تصبح ترفًا لا يتناسب مع متطلبات السوق.
مع الوقت، ينسى الإنسان ذاته، يتعفن طموحه داخل قوالبَ تصنعها الآلة الرأسمالية لتغذي به نظامها، يقول إريك فروم: “إن الرأسمالية قد جعلت من الإنسان سلعة تقيّم بمردودها، وتحولت حريته إلى عبودية مقننة”. ومع هذا، ففي كل زاوية مظلمة، يكمن في الإنسان نور صغير، يُدعى الأمل، يقاوم الانطفاء.
ينمو في ظل هذا الطغيان الاقتصادي تمردٌ هادئ، في عيون من يجدون في تفاصيل الحياة الصغيرة خلاصًا.. إنهم أولئك الذين يدركون أن السعادة ليست سلعة، ولا الطمأنينة ثمن، وأن الحياة لا توزن بالأرقام.. هم الذين يحلمون رغم عجزهم عن الشراء، ويحبون رغم ضيق الوقت، ويستمعون إلى أصوات أرواحهم الهامسة وسط ضجيج هذا العالم.. هم الثائرون ضد الاستغلال الذي يحاول أن يمتص منهم روحهم، يعيدون اكتشاف الإنسانية في الابتسامة العابرة، والمحادثات البسيطة، والأحلام التي لا يسهل على أحد شراؤها. في نهاية، يظل هؤلاء هم الحقيقة التي تهدد الزيف الكبير، يواجهون النظام بلطفهم، يحاربونه بضحكاتهم التي لم تستطع المادة أن تأخذها، ويرسمون على ظلام المعاناة في ظل وحشية الرأسمالية خطوطًا من نور، تأبى أن تخضع للآلة.