سياسة
يعيش الطفل الأفريقي، سواء في إفريقيا أو في الغرب، تحت تأثير متواصل لدعاية تروج للتفوق العرقي الأوروبي. عبر شاشات التلفاز ومقاعد الدراسة، تُصوّر له أجيال أجداده وكأنها لم تكن سوى “بدائية” أو “خرافية”، ويُقال له إن المسيحية هي ما جلب لهؤلاء “الهمجيين” الحضارة والإنسانية. كما يتعرض الطفل الأفريقي، سواء في مدرسته أو حتى في بيته، لرسائل ضمنية تصوره في موقف المستفيد من الحضارة الأوروبية، بل ربما يطالبه المجتمع ضمنيًا بامتنان على جريمة استرقاق الأوروبي لأجداده، ويصور الجرائم المرتكبة ضدهم كضريبة للتمدن.
أمام هذا الواقع المؤلم، اكتشفت بعد زيارة طفيفة لكوريا الجنوبية، ووددت أن أكشف لأطفال أفريقيا -ربما حتى للكبار- عن عوالم أخرى، رؤى مختلفة وحقائق لا يغطيها النظام التعليمي التقليدي، وهذا كان سبب توجهي نحو آسيا في الأساس، حيث تختلف السرديات وتختفي تلك المركزية الغربية.
لماذا قد تكون البداية من كوريا؟
تقدم كوريا الجنوبية نموذجًا مشتركًا يتقاطع مع كثير من تجارب الدول الإفريقية، فهي بلد فرضت عليه القوة الاستعمارية حظرًا صارمًا على لغته وثقافته، وأرغم شعبه على نسيانها.
لكن في الوقت الراهن، عند مدخل متحف الحرب في سيول، تُحيي عبارة ” Freedom is not Free” أو “الحرية ليست مجانية” زواره، حاثةً الكوريين الشباب على فهم أن حب الوطن ليس كلمات، بل تضحيات يومية. في كوريا، تبدأ رحلة تعليم الأطفال من فهم الماضي إلى مواجهة الحاضر، لتذكّر الكوريين الصغار أن الحرية والوطنية ليستا مجرد شعارات، بل هما التزام بالعمل والتضحية. يتعلم الأطفال في المتحف أن الوطنية ليست مجرد كلمات تُقال، بل انعكاس حقيقي في أفعالنا اليومية وقراراتنا، وأن حب الوطن يعني القبول بالتضحية بوقتنا وجهدنا وبعض حريتنا ومواردنا من أجل الصالح العام، لصياغة مستقبل أكثر ازدهارًا.
هنا في كوريا الجنوبية، يشكّل التعليم حجر الزاوية لبناء وطن قوي، حيث يتعلم الأطفال أن حب الوطن يُترجم إلى أفعال ملموسة. في هذا المتحف-المدرسة يبدأ الأطفال رحلتهم عبر عروض تقنية 4D تعرض تاريخ الحرب الكورية، ثم ينقلهم إلى مرحلة أخرى من “الحرب الحديثة”، التي يسمونها الحرب الاقتصادية، وهي أساس تمويل المعركة الأعمق، أي معركة البقاء.
في هذا السياق، يتعمق الأطفال في مفهوم الصناعة كقوة محركة للأمة، حيث يُغرس فيهم أن الإنتاجية هي العمود الفقري للوطن القوي. يُوجهون إلى أهمية العمل الصناعي وابتكار الثروة كوسيلة لدعم وطنهم في مواجهة تحديات الحياة. وتذكّرهم الدروس هنا أن السلام لا يتحقق إلا بالاستعداد الدائم للحرب، وهو درس يعززه المتحف بأن الأطفال، برفقة معلميهم، يحملون دفاتر للإجابة على أسئلة معدّة لهم سابقًا، ليفكروا في عمق مفهوم الوطنية.
ولعل السؤال البسيط الذي يُطرح على الأطفال، هو نفسه الذي يجب أن يُطرح اليوم على المثقفين الأفارقة: ما الذي يمكن أن تفعله ليصبح وطنك عظيمًا وثريًا تخدم وطنك قبل أن يخدمك؟
إفريقيا وكوريا الجنوبية: دروس من التاريخ المشترك
كما تعرضت إفريقيا للاستعمار الأوروبي، خضعت كوريا هي الأخرى للاستعمار الياباني، وعانت من طمس ثقافتها وتاريخها. كان الاستعمار في إفريقيا وكوريا، على حد سواء، استعمارًا للهوية وتغييرًا للثقافة. لكن مع نهاية الاستعمار الياباني بانفجار القنبلتين عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، لم يكن هناك سوى القليل من الناس يتحدثون الكورية خارج الكوريتين وبعض المجتمعات المحدودة في الصين، ورغم ذلك استطاع الشعب الكوري أن يفرض لغته وثقافته على العالم، ليصبح تأثيره الثقافي واسع النطاق. فقد تجاوزت الأعمال الكورية، مثل مسلسل “Squid Game” وفيلم “Parasite”، نظيراتها الغربية، وأصبح الإنتاج الكوري مثالًا على إحياء ثقافي يمكن أن يكون ملهمًا لإفريقيا.
يطرح النموذج الكوري بُعدًا عميقًا للدول الإفريقية التي تسعى لاستعادة هويتها، ويُظهر كيف يمكن تحويل اللغة والقيم الثقافية إلى أدوات منافسة عالمية. تمامًا كما قامت اليابان بطمس الثقافة الكورية، استبدل الاستعمار الغربي لغات إفريقيا وهوياتها، وحوّل الكوريين إلى جنود في الجيش الياباني، كما فعلت فرنسا مع الأفارقة في حروبها العالمية. اليوم، تحتاج إفريقيا إلى استلهام هذا الدرس: بأن النهوض بالهوية يتطلب رؤيةً تتجاوز الواقع نحو إحياء ثقافي شامل؛ حيث تتبنى إفريقيا لغاتها وتعمل على تطويرها لتجد مكانًا لها على الساحة العالمية، تمامًا كما فعلت كوريا.
كوريا الجنوبية: نموذج مقاومة ثقافية وصناعية تحت وطأة الاحتلال
منذ عام 1953، وُضعت كوريا الجنوبية تحت السيطرة العسكرية الأمريكية، ولم يسعَ هذا الوجود سوى لدعم الديكتاتوريات العسكرية الحاكمة فيها. ففي عام 1949، لقي نحو 60 ألف فلاح كورّي حتفهم فقط لأنهم طالبوا بحقوق أوسع، ومع حلول عام 1953، بدأت موجة قوية من فرض المسيحية على المجتمع الكوري. لكن ما يميز كوريا عن إفريقيا في هذه النقطة، هو أن مثقفيها قادوا مقاومة ثقافية ودينية تركزت على حماية الهوية الكورية العريقة. وعلى الرغم من أن المسيحية أصبحت شائعة بين عامة الشعب، إلا أن المثقفين لم يتخلوا يومًا عن إرثهم سواءً الديني والثقافي، وأبوا أن يفرطوا في جذورهم الثقافية التي تشكلت على مدى القرون.
في إحدى الأيام وفي الصباح الباكر اصطحبت رفاقي لزيارة أكبر المعابد الملكية في كوريا الجنوبية، حيث كانت تجربة غنية وملهمة. شهدنا مراسم تغيير الحرس الملكي كل ساعة، وهي طقوس تعود إلى قرون طويلة، واستشعرنا الاحترام الكبير الذي يوليه الكوريون لأسلافهم. ورأينا الزوار يرتدون الأزياء التقليدية تعبيرًا عن الوفاء لجذورهم، في مشهد يبرز التناقض بين المعبد العريق وناطحات السحاب الحديثة المحيطة به، وكأن هذا المعبد يمثّل نبض الماضي -الذي أراد الاستعمار طمسه- وسط زخم العصر.
أما من الناحية الاقتصادية، نجد الكوريين قد أرسوا نموذجًا آخر؛ فبينما نجد في إفريقيا بعض الأثرياء يبنون الكاتدرائيات التي فرضت عليهم إبان الاستعمار، يمول الصناعيون الكبار في كوريا متاحف ومعابد ونشاطات ثقافية تكرم التراث، مثل “سامسونغ” و”هيونداي” و”دايو” و”كيا” و”لوتيه”. في كوريا يحرص المثقفون على تكريس ثقافة الأجداد بعملهم وإنتاجهم، وليس بتمجيد الماضي فقط كما يفعل بعض ناشطي أفريقيا؛ فهم يؤمنون بأن الوفاء للتاريخ يتطلب تجاوزه والوصول بإنجازات البلاد إلى العالمية. لذلك ورغم حجم البلاد الصغير، نجد المنتجات الكورية حاضرة في كل بيت، من هواتف “سامسونغ” وثلاجات “إل جي”، وصولاً إلى السفن التي تُبنى في أحواض هيونداي للصناعات الثقيلة، التي تضم قرابة 30 ألف موظف وتُعد الأكبر من نوعها عالميًا، وتمثل العمود الفقري لتجارة كوريا.
ويجدر بنا أن نلاحظ هنا الفرق في الطموحات؛ ففي إفريقيا، يحلم البعض بالعمل في الشركات التي يملكها المستعمر السابق، بينما في كوريا الجنوبية، يسعى المثقفون لصناعة ما يتجاوز ما قدمه المحتل. وبعد 71 عامًا من الاحتلال الأمريكي، استطاعت كوريا الجنوبية، تلك الدولة الصغيرة بمساحتها البالغة نحو 100,000 كيلومتر مربع وسكانها الذين لا يتجاوزون 51 مليون نسمة، أن تقف اليوم كقوة اقتصادية وصناعية تتحدى كبرى الشركات الأمريكية في وادي السيليكون الأمريكية وفي صناعة السيارات، مثل أبل وجنرال موتورز، في الإلكترونيات والتكنولوجيا والسيارات.
الخاتمة: تظل كوريا الجنوبية نموذجًا مُلهِمًا في استعادة الهوية رغم الاستعمار والاحتلال الأجنبي، وهو نموذج يمكن أن يكون له صدًا خاصًا بالنسبة للأطفال الأفارقة في تقديري. ففي إفريقيا، حيث تتصاعد الدعوات للتحرر من الاستعمار الفرنسي بأبعاده السياسية والعسكرية والثقافية، نجد أن الحديث يحتدم حول استعادة الهوية الإفريقية والتخلص من هيمنة اللغة الفرنسية التي تسيطر على الخطاب والعمل والثقافة في كل المستعمرات الفرنسية السابقة. لكن حين أعلنت بعض الدول عن رغبتها في التحرر من هذه الهيمنة، اكتفت بالتصريح بأن اللغات الوطنية ستصبح “لغات رسمية”، دون وضع برنامج وطني طموح قابل للتنفيذ يوضح كيف ستتحول هذه اللغات فعلياً إلى أدوات تخاطب وإدارة. حتى في دولة مثل النيجر التي طردت القوات الفرنسية مؤخرًا، نجد أن تعيين وزيرة للتراث الوطني وإحياء اللغات الوطنية ظل خطوة رمزية دون إطار زمني واضح قابل للقياس، أو آلية تُحدد متى وكيف ستتحول اللغة الرسمية إلى لغة وطنية واحدة من بين 13 لغة محلية، مما يجعل البرنامج يبدو فضفاضًا وغير جاد.
وعلى صعيد الوجود الأجنبي، وجدنا بعض الأكاديميين والناشطين ينادون بطرد القواعد الأجنبية باعتبارها حلاً شاملاً لمشكلات بلداننا. غير أن التجربة الكورية تُثبت لنا أن وجود القواعد الأجنبية أو غيابها ليس العامل الحاسم؛ فالتحول نحو الصناعة والتطور يرتكز على التعليم المتقدم والعلوم، لا على انسحاب القواعد العسكرية فحسب. فإذ أقر بأهمية طرد القواعد الأجنبية، سواء كانت غربية أو شرقية، كخطوة لاستعادة السيادة، فإنني، من باب الإرشاد الأكاديمي، أرى أن هذا الإجراء ليس سوى جزء من الحل، وليس خطوة جوهرية بحد ذاتها، حتى لا نُخلط بين المهم و “وَهم المهم”.
وإن كانت هناك طموحات حقيقية لدى القادة الأفارقة، فإن إرسال بعثات للتعلم من التجربة الكورية قد يكون خطوة نموذجية. فالتجربة الكورية تحمل تشابهات مهمة مع تاريخ إفريقيا وصراعها مع ماضي الاستعمار، كما أنني على يقين بأن كل طفل يملك القدرة على تحقيق نجاحات مماثلة، إن توفرت له الإمكانات والدعم، سواء كان من إفريقيا أو آسيا. ولطالما كان السفر من أضمن الوسائل لاكتساب المعرفة.
وهكذا تنهار الأوهام المغروسة في عقول أطفالنا عن تخلفهم وحتمية امتنانهم للاستعمار والاستعباد الأوروبيَيْن، وعن فكرة التفوق العرقي وكأن الأوروبي هو القمة التي لا تُضاهى في الإنجاز والحضارة.