سياسة
كانت حرب الاستقلال الأيرلندية أحد الحروب الملهمة في التاريخ الحديث، حيث خاضت حربا طويلة سياسيا وعسكريا للاستقلال عن الحكم البريطاني. وقد برز العديد من الشخصيات والرموز التي تركت بصمتها الكبيرة في تاريخ الحرب ولعبت دورا حاسما في المجالين السياسي والعسكري. أحد تلك الأسماء هو “مايكل كولينز” الذي كان له دور في اعتماد نمط حرب العصابات في المواجهات العسكرية مع بريطانيا.
كان كولينز ناشطًا طلابيا في شبابه منذ سن مبكرة، وازداد شغفه خلال فترة نشأته بالقومية الأيرلندية. وانضم إلى جماعة الإخوان الجمهوريين الأيرلنديين IRB وشارك في انتفاضة عيد الفصح عام 1916،، حيث عمل كمساعد عسكري لجوزيف بلونكيت في مكتب البريد العام. وقد مثل هذا الحدث ظهوره كزعيم مهم في الحركة الجمهورية. وهي انتفاضة مسلحة خرجت لإنهاء الحكم البريطاني. وعلى الرغم من قمع الانتفاضة في أسبوع، إلا أنها استطاعت أن تحشد الدعم الشعبي للقضية الأيرلاندية وتعزز من الهوية القومية، وخاصة بعد أن أعدم البريطانيون قادتها، وحولوهم إلى شهداء للحركة.
على خلفية مشاركته في انتفاضة عيد الفصح؛ سُجن كولينز في معسكر اعتقال “فرونغوت”ش في ويلز نحو عام. وخلال هذا الوقت، قام بتنظيم فرع للإخوانية الجمهورية الأيرلندية (IRB) بين زملائه السجناء، مما عزز مهاراته القيادية وأقام علاقات مع شخصيات رئيسية أخرى في الحركة. لتكون فترة اعتقاله بمثابة نقطة انطلاق له نحو قيادة العمل السياسي والعسكري.
وبعد إطلاق سراحه، أصبح كولينز عضوًا بارزًا في حزب “شين فين – Sinn Féin” وانتخب للجنة التنفيذية. سمحت له مشاركته في هذا الحزب بالتأثير على السياسات والاستراتيجيات القومية بشكل كبير.
انتقد كولينز انتفاضة عيد الفصح بالرغم من مشاركته بها، حيث قاتل جنبًا إلى جنب مع باتريك بيرس وآخرين في مكتب البريد العام في دبلن. وقد أصبحت الانتفاضة “كارثة عسكرية”. في حين احتفل البعض بحدوث الانتفاضة، مؤمنين بنظرية بيرس أحد أهم رموز الحركة الإيرلندية القومية، حيث كان يرى أن “التضحية بالدم” بتقديم زعماء الانتفاضة دماءهم يمكن أن يلهم آخرين للذهاب إلى الانتفاضة وتحقيق ثورة ضد الاحتلال البريطاني.
كانت وجهة نظر كولينز بأن قرار الانتفاضة خطأ كارثي، وخص في ذلك الاستيلاء على مواقع لا يمكن الدفاع عنها أو مواقع هشة وغير حصينة مثل سانت ستيفن جرين التي كان من المستحيل الهروب منها ومن الصعب إمدادها. كان ذلك الانتقاد تحولا في مسار حرب الاستقلال الإيرلندية وأخذ كولينز يؤسس لمفهوم حرب العصابات في المواجهة مع القوات البريطانية بالهجوم المفاجئ والانسحاب السريع مما يوقع خسائر كبيرة في صفوف القوات البريطانية في حين تحافظ المجموعات المقاومة على كيانها وبنيتها وفاعليتها بل ويدفع الكثير للالتحاق بالمجموعات المقاومة مع تحقيق نجاحات ميدانية مقابل خسارة محدودة في صفوف المقاومة.
مثلت انتفاضة عيد الفصح نقطة انطلاق لكولينز ليصبح أحد الأفراد الرئيسيين الذين وضعوا أساس نظام الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA)، الذي تبنى تكتيكات حرب العصابات ضد القوات البريطانية. وتحت قيادته، نفذ الجيش الجمهوري الأيرلندي كمائن وغارات، استهدفت ثكنات الشرطة والمنشآت العسكرية البريطانية. وكان هذا النهج محوريًا خلال حرب الاستقلال الأيرلندية (1919-1921)، والتي شهدت استخدام كولينز لاستراتيجيات مبتكرة لمواجهة عدو مجهز بشكل أفضل.
تضمنت المرحلة الأولية من عمليات الجيش الجمهوري الأيرلندي غارات على ثكنات الشرطة الملكية الأيرلندية ومنازل ملاك الأراضي للحصول على الأسلحة لبناء قواتها. والتي غالبًا ما كانت تُنفذ ليلًا، ومع تصاعد الإغارات على الثكنات تحولت إلى مناطق معزولة وقليلة العدد لتتحول إلى أهداف سهلة للكمائن خاصة خلال الشتاء. حيث كان العديد من متطوعي الجيش الجمهوري الأيرلندي يعملون أثناء النهار، تسببت تلك العمليات في جعل القوات البريطانية تغلق الحاميات الريفية المعزولة مع تشديد الأمن حول ثكناتها المركزية في المدينة.
أدى هذا إلى تحول في تكتيكات الجيش الجمهوري الأيرلندي من غارات صغيرة ومحدودة إلى حملة من الهجمات الأكبر. حيث كان هذا التغيير في الأنشطة ممكنًا من خلال تقديم “الأعمدة الطائرة”. كانت الأعمدة الطائرة قوة دائمة من المتطوعين المتنقلين للغاية الذين مكّنوا الجيش الجمهوري الأيرلندي من تنفيذ الكمائن. بالاعتماد على المعلومات من نظام الاستخبارات المتخصص الذي يتخذ من دبلن مقراً له، نفذ الجيش الجمهوري الأيرلندي سلسلة من الكمائن طوال حرب الاستقلال الأيرلندية بما في ذلك كمين كيلمايكل الشهير الذي قتل فيه 17 من القوات البريطانية و3 أعضاء من الجيش الجمهوري الإيرلندي.
كان كمين “كيلمايكل” الذي نفذ في نوفمبر 1920 دلالة على تطور النهج العملياتي الجيش الإيرلندي حيث استعان بشبكات استخبارت أسسها لجمع المعلومات عن القوات البريطانية مما تسبب في خسائر أكبر. كان كولينز مدير الاستخبارات للجيش الجمهوري الأيرلندي حيث عين عام 1919، وقد طور الجيش الجمهوري الأيرلندي تكتيكات حرب العصابات تحت قيادة مايكل كولينز في دبلن. حيث شملت العمليات أيضا تنفيذ اغتيالات ضد عملاء الاستخبارات البريطانية ثم التخفي في حشود المدنيين من خلال وحدات صغيرة مما أربك القوات البريطانية وجعلها تتراجع.
أما في ملعب السياسة، فقد قاد كولينز الوفد الأيرلندي للتفاوض على المعاهدة الأنجلو-أيرلندية بعد هدنة مع بريطانيا في يوليو 1921، ونتيجة لتلك المعاهدة تأسست الدولة الأيرلندية الحرة لكنها اشترطت الولاء للتاج البريطاني، مما أدى إلى انقسام كبير داخل الحركة الجمهورية. وقد تولى رئاسة الحكومة المؤقتة في يناير 1922 بعد التصديق على المعاهدة، لكن مع توسع الخلافات بين المؤيدين والمخالفين للمعاهدة قاد كولينز بعدها حربا أهلية بصفته القائد الأعلى للقوات المؤيدة للمعاهدة أثناء الحرب الأهلية الأيرلندية، وقد واجه كولينز معارضة من الفصائل المناهضة للمعاهدة بقيادة إيمون دي فاليرا زعيم التيار الرافض للمعاهدة. وقد حرص على وضع أولوية لبناء قواعد النظام الحاكم وتأسيس الحكم في دولة منقسمة. وسعى إلى الحفاظ على النظام أثناء التنقل في مشهد سياسي منقسم بشدة حتى اغتياله في أغسطس 1922 أثناء كمين نصبته القوات المناهضة للمعاهدة.
كان مايكل كولينز شخصية محورية في تاريخ الكفاح الإيرلندي ضد الاحتلال البريطاني، حيث ترك بصمة واضحة في مسار الثورة الأيرلندية وحرب الاستقلال. فمن خلال عبقريته العسكرية وذكائه السياسي، استطاع أن يقود الحركة الجمهورية الأيرلندية نحو تحقيق أهدافها، معتبراً أن حرب العصابات هي الأداة الأنسب لمواجهة قوة استعمارية متمرسة. لقد كان كولينز رجلاً متعدد المواهب، فبالإضافة إلى كونه قائداً عسكرياً ماهراً، كان سياسياً بارعاً وقادراً على التفاوض والتسوية. ومع ذلك، فإن قراراته الجريئة، مثل الموافقة على المعاهدة الأنجلو-أيرلندية، أحدثت انقساماً عميقاً في الحركة الجمهورية، وجعلت حياته هدفاً للاغتيال.
في النهاية، اغتيل مايكل كولينز في ذروة مسيرته، تاركاً وراءه إرثاً معقداً. فمن ناحية، يعتبره البعض بطلاً قومياً قاد بلاده إلى الاستقلال، ومن ناحية أخرى، يعتبره البعض خائناً لتطلعات الثورة بسبب موافقته على المعاهدة التي قيدت استقلال أيرلندا. ومع ذلك لا يمكن إنكار دوره الحاسم في تشكيل مستقبل أيرلندا. فقد كان قائداً استثنائياً، استطاع أن يجمع بين العمل الميداني العسكري والنضج السياسي. كانت نظرته النقدية لعيد الفصح نقطة تحول لمسار حركة الاستقلال ككل واستطاع أن يمهد الطريق ويحشد الطاقات نحو الاستقلال.