سياسة
فاز ترامب٬ وانتزع حزبه أغلبية مجلس الشيوخ وهو ربما في طريقه لفعل ذلك بمجلس النواب٬ فهل سيعني فوز ترامب دعم بلا حدود ولا قيود لـ”إسرائيل”٬ أم أن كلفة إصلاح “إسرائيل” وبقاء نتنياهو في السلطة ستكون باهظة على رجل الأعمال والصفقات الأمريكي؟
منذ توليه الرئاسة في المرة الأولى، أظهر ترامب دعمًا غير محدود لـ”إسرائيل”، من خلال قراراته التي مثلت نقلة نوعية في السياسة الأمريكية تجاه دولة الاحتلال، بدءاً من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، والاعتراف بسيادة الكيان على مرتفعات الجولان المحتلة. وقد تكون سياساته الآن بعد فوزه بالولاية الثانية في هذا الملف تسير بنفس الاتجاه٬ لكن ربما ضمن معطيات جديدة تتعلق بالوضع الراهن لـ”إسرائيل” -التي لم تعد كما كانت قبل 4 سنوات- بالإضافة لتطورات الحرب مع غزة ولبنان والتصعيد مع إيران، وبالتالي انعكاس ذلك على المصالح الاقتصادية والأمنية لأمريكا في المنطقة.
ورغم التوترات خلال السنوات الأخيرة بين ترامب ونتنياهو، خاصة بعد انتخابات 2020 حينما سارع نتنياهو في تهنئة جو بايدن وأغضب ترامب، إلا أن العلاقات بينهما قد لا تعود إلى سابق عهدها. حيث يعتبر ترامب “إسرائيل” حليفًا استراتيجيًا لا يمكن التخلي عنه، وعلى الأرجح سيعمل على تقوية هذه العلاقة، ولكن بتركيز أكبر على ما يخدم مصالح الولايات المتحدة مباشرة بالدرجة الأولى. فخلال فترة رئاسته، كانت دعمه لـ”إسرائيل” قوياً وربما غير مسبوق، لكنه قد يتجه للضغط على نتنياهو أو حتى استبداله لضمان تحقيق مكاسب ملموسة للولايات المتحدة في المنطقة وعدم الإضرار بمصالحها.
في مقال له بصحيفة هآرتس الإسرائيلية يقول الكاتب “إران ياشيف” وهو خبير اقتصادي وسياسي إسرائيلي٬ ورئيس قسم السياسات العامة في جامعة تل أبيب٬ إن “من مصلحة ترامب إزاحة نتنياهو من السلطة لـ”ارتفاع تكلفة “صيانته” ولأنه “شخص يحتاج إلى اهتمام ورعاية ودعم مستمر”، مشيرا إلى أن رأيه ليس تنبؤا دقيقا بل تحليل لموقف ترامب “المتقلب وغير القابل للتنبؤ”، مع مراعاة الاعتبارات الاقتصادية في المقدمة.
ويقول ياشيف الذي كان رئيس برنامج الاقتصاد والأمن القومي في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي٬ إن نتنياهو بنظر الأمريكيين يحتاج إلى “صيانة عالية” حيث تلقت “إسرائيل” ما يقرب من 18 مليار دولار من المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة على مدار العام الماضي. وأعرب ترامب عن رغبته في عدم إنفاق أموال دافعي الضرائب الأميركيين على الصراعات الخارجية، سواء في أوكرانيا أو “إسرائيل”، وتصرف بناء على ذلك؛ حيث إن دعم الاضطرابات المستمرة في الشرق الأوسط ليس على أجندته.
ويتساءل ياشيف: هل لدى ترامب التزام تجاه نتنياهو؟ ليجيب: “لا”، حيث يعتَبر أن ترامب يحتقر نتنياهو ويستاء من علاقات رئيس الوزراء الإسرائيلي بالرئيس الأمريكي جو بايدن. والآن بعد أن تحرر من الاعتبارات الانتخابية، فإن وعود حملته الانتخابية لا تحمل قيمة تذكر، وفق تعبيره.
كان ترامب ينظر على الدوام إلى “إسرائيل” كمركز استراتيجي لمواجهة التهديدات الإقليمية مثل إيران وحزب الله٬ لكنه لا يريد دخول الولايات المتحدة في أي حروب معهما٬ وفي الوقت نفسه٬ لم تعد “إسرائيل” كما كانت٬ صورياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً وحتى استهلاكاً لأموال الولايات المتحدة الأمريكية٬ وهذا يعني أن أسلوب التعامل الذي كان يتعامل ترامب به سابقاً مع نتنياهو قد يختلف هذه المرة.
فيما يتعلق بغزة٬ فمنذ سنوات، سعت إدارة ترامب إلى تقديم دولة الاحتلال كحليف قوي في مواجهة ما يسميه “الإرهاب” في المنطقة، وقد تبرر توجهاته الحازمة هذه الاستراتيجية لاستمرار الدعم الكامل لـ”إسرائيل” في حربها ضد حماس٬ لكن هذا الدعم قد لا يكون على مصراعيه أو دون مقابل؛ فمع العودة للبيت الأبيض، ربما سيعمل ترامب على تحقيق إنجازات له مع بداية فترته الرئاسية ويوقف الحرب في لبنان وغزة بعد الضغط على نتنياهو لفعل ذلك٬ وقد يساومه على بقائه في السلطة بهذا الملف٬ حيث يريد ترامب صنع إنجاز يعود بالنفع على سمعة أمريكا في عهده ونجاحه في إطفاء نيران الحرب ساهم فشل بايدن في تأجيجها كان ظل يردد ترامب ذلك بحملته الانتخابية.
في الوقت ذاته، فإن التصعيد في غزة يمثل عبئاً ليس فقط على “إسرائيل”، بل وعلى السياسة الأمريكية. ومن هنا، قد يرى ترامب ضرورة الضغط على دولة الاحتلال لإيجاد تسوية ما٬ مع ضمان توجيه دولة الاحتلال لشن ضربات ضد أهداف “واضحة وحاسمة”، أي دون الدخول في نزاعات طويلة تكلف “إسرائيل” أموالاً ستدفعها أمريكا٬ وتتسبب في وقوع ضحايا٬ تؤثر على صورة دولة الاحتلال وأمريكا في عهد ترامب.
في ولايته الأولى، سعى ترامب لتعزيز شراكات اقتصادية كبيرة مع بعض دول المنطقة للتطبيع مع “إسرائيل”، ويبدو أن عودته ستدفعه لاستكمال ما بدأه وتتويج ذلك بجعل “إسرائيل” مركزاً اقتصادياً في المنطقة٬ لكن ذلك يعني بالضرورة إنهاء حروبها وضمان عدم انفجار المواجهة بينها وبين إيران. لذا، قد يدفع ترامب حكومة نتنياهو لاستثمار المزيد من الجهود في قطاعات تؤمن مردودات اقتصادية مشتركة، بدلاً من تركيز الأموال على العمليات العسكرية وحدها.
كما أن العلاقات المتنامية بين “إسرائيل” وبعض دول الخليج ستلعب دورًا كبيرًا في تحديد السياسة الأمريكية تجاه غزة. ومن المتوقع أن تقوم دول الخليج -بضغط من ترامب- في المساعدة بدعم غزة مالياً٬ بعد البحث عن صيغة ما لإدارة القطاع مع الفلسطينيين. لذلك قد يستخدم ترامب ملف غزة كورقة ضغط وابتزاز للحصول على مكاسب أكبر من دول الخليج، بما في ذلك اتفاقيات جديدة تسهم في تمويل الاقتصاد الأمريكي أو بدعوى تعزيز التعاون العسكري والأمني وحمايتهم مع تهديدات إيران.
في المقابل، يدرك ترامب أن قراراته حول القضية الفلسطينية ستكون تحت أنظار الجميع الذين ينتظرون فروقاً عن الإدارة السابقة التي لطالما وصمها بالفشل٬ وخصيصاً بعض قطاعات الشعب الأمريكي مثل العرب والمسلمين الذين وعدهم بإنهاء الحرب مقابل أصواتهم في الانتخابات في ولايات مثل ميشيغان وشيكاغو ونيوجيرسي وغيرها. وأثبت الجاليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة الأمريكية أن لها صوتاً مؤثراً يمكن أن يحدث فرقاً بالانتخابات٬ حينما قررت أن تعاقب الديمقراطيين الذين أخلوا بوعودهم.
كما تصاعدت أصوات من قطاعات أخرى لمراجعة النهج الأمريكي غير المتوازن تجاه الاحتلال الإسرائيلي. وربما يسعى ترامب لتحقيق توازن بين الدعم لـ”إسرائيل” ومراعاة متطلبات السياسة الخارجية الأمريكية، التي قد تتطلب موقفاً أكثر “اعتدالاً”.
وهنا يجب أن نضع في حسباننا أن ترامب ليس معروفاً بنهج التسوية في سياساته، إلا أنه قد يضطر في بعض الأحيان للاستجابة لضغوط داخلية تدعو لتحقيق نوع من العدالة للشعب الفلسطيني، ولو بالحد الأدنى. وفي هذا السياق، قد يعيد ترامب صياغة رؤية “السلام” التي قدمها سابقًا، بحيث تشمل حلولًا أقل صدامًا مع الواقع الفلسطيني، لكنه بالطبع لن يكون جاهزاً لتقديم تنازلات حقيقية على حساب “إسرائيل”.
بالطبع٬ لن تكتمل صورة السياسة الأمريكية تجاه دولة الاحتلال وحروبها الكارثية دون الحديث عن إيران. وترامب يعتبر إيران عدوًا مشتركًا للولايات المتحدة و”إسرائيل”، وقد يستمر في اتخاذ قرارات صارمة ضدها بشن المزيد من العقوبات والحصار الاقتصادي. وربما يعزز وجود القوات الأمريكية في المنطقة، كما سيعمل على دعم “إسرائيل” أمنيًا وعسكريًا٬ لكن تركيزه الأكبر سيظل منصباً على الصين وتهديداتها العسكرية والاقتصادية للهيمنة الأمريكية.
وقد يرى ترامب أن تقييد نفوذ إيران في المنطقة هو جزء من استراتيجيته العامة للضغط على المقاومة في غزة ولبنان. وبالتالي، يمكن توقع مزيد من الضغط على إيران، ولكن أيضًا على دول أخرى في المنطقة لدعم “الاستقرار في غزة” وفقاً للمعايير الأمريكية.
في نهاية المطاف، هذه مجرد تصورات للمشهد القادم بناء على سنوات أربع حكم بها ترامب الولايات المتحدة وتعامل بها مع منطقتنا٬ ولا شك أن فلسطين وشعوبنا لا يعنيهم الكثير حول من سيجلس في البيت الأبيض٬ لأننا عانينا وسنظل نعاني من السياسات الخارجية الأمريكية والدعم المفتوح لدولة الاحتلال٬ سواء أكان الرئيس ديمقراطياً أم جمهورياً٬ ولا شيء يدعونا للتفاؤل بإنصافنا في يوم ما من الإدارات الأمريكية التي شاركت وتشارك في قتلنا كل يوم.