مدونات
الكاتبة: نور الحلو
تعلَّمنا من الطفولة أن هناك العديد من الشعب الفلسطيني اسمه لاجئ مثل والدينا واجدادنا وجميع من اضطروا لترك بيوتهم في نكبة 1948 لكن اليوم وفي وجه حرب جديدة على غزة صاروا يسموننا “نازحين” بعد أن أخرجونا من شمال القطاع وشرَّدونا إلى الجنوب والوسط ولم نغادر غزة بل نُقلنا قسراً من شارعٍ إلى شارع ومن حيٍّ إلى حي تحت وطأة الدمار وتحت تهديد الموت الذي يلاحقنا أينما كنَّا.
غزة هذا الشريط الضيِّق من الأرض لايوجد فيه مكانٌ آمن كل بقعةٍ فيها مرسومة بالخوف وكل بيتٍ يشهد على قصص صمودٍ تمتد لعقود لكن العالم لا يرى ومنذ بداية هذه الحرب التي لا نعرف متى تنتهي تزداد أعداد النازحين كل يوم آلاف من العائلات تترك بيوتها تحت القصف تبحث عن أي زاوية تأوي إليها الناس تكتظ في البيوت الصغيرة ويفترشون الأرض يشاركون في الخوف ذاته وفي المعاناة ذاتها حيث لا شيء يجلب الأمان.
البداية.. صوت الانفجار الأول.. في صباحٍ عادي كنا نشرب قهوتنا مع شمس غزة ونحن نتبادل الحديث عن الحياة وعن الأمل كما نفعل دائماً ونجهز اطفالنا للذهاب الي دوامها المدرسي المعتاد ولكن فجأةً تحول كل شيء صوت الانفجارات حديث اليوم وكانت البداية لمحرقة تطرق باب بيوتنا بلا موعد وبلا إنذار جاء القصف ليلاً ونهاراً لم يعد النوم يعرف طريقه إلينا ولم تعد عيون الأطفال تنام هانئة وجوههم الصغيرة التي اعتادت الفرح رغم كل شيء باتت تملؤها علامات الخوف وما من سبيل لطمأنتهم أصبح الخوف يسري في كل بيت وفي كل زاوية من شوارع غزة.
النداء بالنزوح.. إخلاء البيوت والمناطق الشمالية. ما زلت أذكر يوم القيت المناشير الورقية من طائرة العدو سمعت جارتنا تصرخ من شدة الخوف بعد أن قالت إن عليهم إخلاء منازلهم والتوجه إلى الجنوب لم أفهم ماذا يجري في البداية لكن سرعان ما بدأ الجميع يتحدث عن الأمر قرارٌ بالنزوح! أمرٌ بأن نترك بيوتنا في شمال القطاع ونرحل إلى الجنوب وكأن غزة شاسعة وكأن الموت لا يعرف طريقاً إلى تلك الأماكن. وبين ليلةٍ وضحاها أخذنا اوراقنا المهمة على اساس يومين وراجعين وغادرنا بيوتنا باهتة اللون عيناي منتفختان من شدة البكاء لم أصدق أنني أترك كل ذكرياتي وكل الأشياء التي بنيتها طوال سنوات لأذهب إلى المجهول نحن الذين اعتدنا على الثبات على الصمود في وجه كل حرب كل قصف كيف يمكن أن نغادر الآن؟
لكن الحقيقة كانت أقوى من الكلمات وكان علينا أن نرحل كل عائلةٍ تحمل ألمها وتصطحب معها ما تستطيع حمله وكأننا على موعدٍ آخر مع التشرد هذه المرة داخل مدينتنا. مخيمات النزوح المؤقتة.. بلا أمان وبلا سقفٍ ثابت وصلنا إلى الجنوب ولم نجد مكاناً نقيم فيه كل مكان مكتظ ولا مكان لنا تفترش العائلات الأرض ينامون تحت الأشجار ينتظرون أي بريق أمل في تلك الليالي الحالكة هل هذه غزة التي كافحنا لأجلها؟ هل هذا ما بقي لنا بعد كل تلك الحروب وكل ذلك الصمود؟! تلك الأسئلة لم أجد لها جواباً ولم أستطع أن أطمئن من حولي تجمعنا معاً واصبحنا نتقاسم ما بقي لنا من خبز وماء كأنها الأيام الأخيرة لنا هنا.
مواصلة القصف.. أين الأمان؟ ظننا أن النزوح إلى الجنوب سيكون نهاية المطاف لكن القصف لم يتوقف ولا يزال يدق باب كل بيت في غزة تسمع من أحدهم أن القصف اقترب ومن آخر أن المنطقة لم تعد آمنة فكيف لنا أن نعيش؟ لا أعلم ماذا سيحدث غداً ولا إن كنا سنعود إلى بيوتنا ولا إن كانت تلك البيوت ما تزال قائمة نعيش على أعصابنا نسمع القصف ونحسبه يقترب في كل لحظة ولم يعد هناك مكان واحد نطمئن فيه.
أطفال بلا طفولة وجيلٌ يحمل على عاتقه معاناة.. أطفال غزة هم القصة الأصعب هنا فهم لم يعرفوا من الحياة سوى صوت القصف وصور الدمار من حقهم أن يعيشوا طفولتهم لكن واقعنا يخبرهم بأمور أكبر من أعمارهم أصبحوا يحملون همومنا ويفهمون ما لا يجب أن يفهموه من الحروب والمعاناة تراهم يلعبون بصمتٍ أو يجلسون متشبثين بأمهاتهم خوفاً من القصف وكأنهم يدركون أن طفولتهم قد سُرقت منهم.
رسالة إلى العالم.. كفى تجاهلاً لمعاناتنا من هنا من غزة أكتب للعالم لا نطلب الشفقة ولا نريد سوى حقنا بأن نعيش كباقي البشر حقنا في الأمان وفي الحياة الكريمة لا نريد أن نكون نازحين في بلدنا ولا أن نحمل لقب اللاجئين أو المشردين بعد كل هذه السنين أكتب إليكم لتعرفوا أننا لسنا أرقاماً في نشرات الأخبار نحن أرواح نحن بشر نحمل أحلاماً وطموحات كأي شخص آخر لماذا يجب أن نعيش دائماً تحت تهديد الحرب والقصف؟ لماذا يجب أن يدفع أطفالنا الثمن؟ نحن هنا نواصل الصمود رغم كل شيء نعيش على أمل أن يكون هناك يومٌ آخر نعود فيه إلى بيوتنا يوم نرى فيه أطفالنا يكبرون دون خوف ونحلم بغدٍ أفضل غزة ليست مجرد ساحة للحرب بل هي أرض الحب والصمود والأمل نحن لا نطلب المستحيل فقط نطلب السلام نطلب الأمان.
غزة حكاية لا تنتهي.. قد يبدو هذا المقال كأنه مجرد كلمات لكنها جزءٌ من واقعٍ أعيشه ويعيشه كل فردٍ هنا غزة ستظل باقية وستظل قوية بأبنائها مهما حاولوا أن يجعلونا نازحين في بلدنا فنحن منغرسون فيها كما هي منغرِسة في قلوبنا هذا النزوح ليس نهاية القصة لأننا نعلم أن لنا الحق في الحياة على أرضنا وأننا سنبقى رغم كل الصعوبات ورغم كل من أراد أن يمحو وجودنا. إلى كل من يقرأ هذا نحن هنا وسنبقى هنا لأننا أبناء غزة أبناء الأرض التي لا تقبل الانكسار.