تجارب

في حيطان؟!

نوفمبر 8, 2024

في حيطان؟!

 

يصلني هذا السؤال وأنا في مدينة تقع على البحر، لم أعش في الصحراء يوماً، ولم أتفقد بأصابعي إحساس الحجارة المصفوفة لتكون حائطاً، لم أجرب أن أجعل ظهري مباشرةً على الحائط، كنت دائماً أفصل بيننا بوسادةٍ عريضة منفوشة، ولم أفهم ماهية أن أرتكز إذا وقفت بيديّ على حائطٍ ما، لأنني كلّما أمسكتُ قماشَ الخيمة توجعت يدي، يتقوّس العمر كما الظهر بلا حائط!


أنظر إلى سؤالك مرّة أخرى، وأتخيّل كم يبدو الحائطُ فكرة عبقرية أو ربّما لوحةً عريقة وقد يأخذ شكل الانتصار إذا نزل صاروخ تدميريّ فوق عمارةٍ سكنية، وظلَّ حائطٌ منها واقفاً، ليتحوّل إلى مزار مقدّس، لأنه نجا حين لم ينج شيء آخر.


كيف يتحول الحائط إلى حاجة بشريّة ملحّة مثل الماء؟ لأنّ القماش ليس ندّاً للشمس، ينصهر فيصهر كل الأجساد التي تحته. هل جربت أن تضع فوق رأسك قماشة وتجلس تحت الشمس الحارقة في منتصف تمّوز؟ مليون شخص في غزّة قد فعلوا ذلك!


اتصل بي زميلٌ في العمل منذ فترة بسيطة، يخبرني أن ابنه الوحيد استشهد واستطاع أن يعثر على جثمانه بعد أسبوعين، لكنه كان صابراً جداً، ويقول نحن نعرف النهاية الأزلية، صابراً كذلك الحائط الذي وقف وحيداً وسط الركام، هو يعرف أنه قد يكون الملجأ الوحيد لهاربٍ من حريق الخيمة، وأنّ كل ذلك الركام من حوله ليس النهاية.


هل تعرف بأننّي أصبحت حقيقيةً جداً في الحرب؟ لا أخجلُ من المعاناة، بل أحملها بين يديّ وأرفعها عالياً، يجب أن يرى العالم كل هذا الألم المفجع وإن لم تنقله نشرات الأخبار التي تزاحمها الأرقام، لكننا نحن نحفظ الوجوه جيداً والأسماء والشوارع والأرصفة والدمع والتواريخ، وإنني الآن أكتشف كم أنا غارقة في الشعرية، ليس لأنني أكتب، بل لأنني لا أحتاج أن أرتدي أي قناعا على وجهي، ولا أحتاج لبرستيجٍ دسته بقدمي منذ أول لحظة أنذرونا بها بالقصف.


مؤلم جداً أن أكتب كل هذا الألم وحدي، أنا التي تشجيني حركة الموج في البحر، ويؤلمني انقطاع خيط لطائرة ورقية في السماء، وتلهمني عيون النساء العاشقات، تقتلني الآن حرب الإبادة دون أن تمنحني وقتاً لأكتب نصّي الأخير، فكّرت كثيراً ماذا سيكون شكله؟ هل سيكون منشوراً سردياً أم قصيدة شعر أو سيكون صورتي الصامتة فقط، حيث لن تتسع لكي ترافقها الكلمات!


سأجيبك الآن: ليس هنالك حيطان، ولا طلاء ناعم فوقها، لا براويز معلقة، ولا مرآة متدلية، وليس هنالك شباك بستارة مخملية جميلة، وكذلك ما من باب، ولا درج، ولا عتبات مدسوسة بين أحواض النعنع والريحان والمرمية والزعتر البريّ ولا أطفال يلعبون أمامها الحجلة.. لكن هنالك امرأة في لحظةٍ نزوحٍ قاتلة تشتهي حائطاً كان يحوي كل ذلك، وحين اشتهت ذلك أدركت أنّها لم تعد هي!


شارك

مقالات ذات صلة