مدونات
الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي
يقول إدوارد بيرنايز في كتابه “الدعاية”: “لا يمكن أن يكون الإنتاج الكثيف مربحًا إلا إذا تم الحفاظ على وتيرته. يجب أن تبيع الأعمال منتجها بشكل مستمر ومتزايد. اليوم، يجب أن يصل العرض بنشاط إلى الطلب المقابل، ولا يمكنه أن ينتظر حتى يطلب الجمهور المنتج. يجب أن يبقى على تواصل دائم من خلال الإعلانات والدعاية ليضمن لنفسه الطلب المستمر الذي وحده سيبقي منشآته المكلفة مربحة”.
تعد الهندسة الاجتماعية وثقافة الاستهلاك من القضايا التي تتقاطع عند نقطة خطرة في العصر الحديث، فمع توسع العولمة وتقدم التكنولوجيا، أصبحت هذه القضايا أدوات مؤثرة في تشكيل سلوكيات الأفراد وتوجهاتهم، ومن ثم التأثير في القرارات الاقتصادية والسياسية، حيث يعتمد نجاح الأنظمة الاقتصادية الحديثة، خاصة تلك المبنية على الاستهلاك المتزايد، على سياسات واستراتيجيات تتسم بالذكاء في هندسة سلوك المجتمع، مما يثير تساؤلات حول الاستقلالية الفردية والمصالح الاقتصادية والسياسية التي تسعى إلى الحفاظ على نمط حياة يستهلك الموارد بشكل كبير. تقوم الهندسة الاجتماعية على فكرة توجيه وتشكيل الآراء والسلوكيات العامة بطرق تضمن استجابة الأفراد والجماعات لتحقيق أهداف معينة.
ويُعتبر إدوارد بيرنايز، الذي يُعرف بأب العلاقات العامة، من أوائل المفكرين الذين طوّروا نظريات الهندسة الاجتماعية. وقد أكد بيرنايز على أهمية استخدام الإعلانات والدعاية كوسيلة لإقناع الجماهير وتوجيهها. وبهذا، تنظر الهندسة الاجتماعية إلى الناس باعتبارهم مجموعة يمكن التأثير فيها ودفعها نحو اتخاذ قرارات قد لا تكون بالضرورة نابعة من إرادتهم أو وعيهم الكامل.
تشير ثقافة الاستهلاك إلى النموذج الاقتصادي الذي يحثّ الأفراد على شراء واستهلاك المنتجات والخدمات بشكل متزايد ومستمر. يتطلب هذا النموذج تحفيز الرغبة لدى الأفراد، ليصبح الاستهلاك بحد ذاته هدفًا ومصدرًا للإشباع النفسي والاجتماعي. وقد عبّر الاقتصادي فيكتور ليبو عن هذا الاتجاه في عام 1955 بقوله إن “اقتصادنا يتطلب أن نجعل الاستهلاك أسلوب حياة، وأن نسعى للحصول على الرضا الشخصي من خلال الاستهلاك”. بهذا، يتم تعزيز فكرة أن الرفاهية والسعادة ترتبط بقدرة الشخص على شراء واستهلاك المزيد، مما يُحكم السيطرة على سلوكيات المجتمع وتوجهاته.
وقد تم استغلال الهندسة الاجتماعية وثقافة الاستهلاك في الحملات الانتخابية الأمريكية، الأمر الذي يوفر أساليب فعالة لجذب الناخبين ودفعهم لاتخاذ قرارات لصالح مرشح معين، حيث تتكامل أساليب الهندسة الاجتماعية التي تتلاعب بالعواطف والسلوكيات مع ثقافة الاستهلاك في إغراء الناخبين بوعود تتماشى مع رغباتهم وتطلعاتهم الاستهلاكية، ومن أبرز الطرق لاستغلال كل من الهندسة الاجتماعية والثقافة الاستهلاكية في تحقيق الفوز بالانتخابات، ما يلي: التسويق العاطفي وتحفيز الحاجات الاستهلاكية: يعتمد استهداف الناخبين على تحليل رغباتهم الاستهلاكية ونقاط ضعفهم، حيث يتم إظهار المرشح كداعم لهذه الرغبات، من خلال إعلانات موجهة وفعّالة، من خلال إثارة احتياجات الاستهلاك لدى الناخبين، كتعهدات بتحسين الاقتصاد وتوفير وظائف أفضل أو تخفيض الضرائب، بحيث يبدو وكأنهم سيحصلون على فوائد ملموسة تلبيةً لتوقعاتهم الاستهلاكية. كما يتم استغلال القضايا الاقتصادية والاجتماعية، مثل وعود تحسين القوة الشرائية وتقليل الديون، لجذب الناخبين الذين يطمحون إلى حياة استهلاكية مريحة، مما يجعلهم يرون المرشح كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف الشخصية.
الترويج لوعود اقتصادية تتماشى مع الثقافة الاستهلاكية:
يتم استغلال ثقافة الاستهلاك من خلال الترويج لمشاريع اقتصادية تدعم الإنتاج والاستهلاك، مثل برامج خفض الضرائب على المنتجات الاستهلاكية أو تشجيع الاستثمارات المحلية التي تعزز السوق المحلي، وذلك لجذب الناخبين الذين يهتمون بتحسين ظروفهم الاقتصادية. هذه الوعود تجعل الناخبين يشعرون بأن المرشح يفهم حاجاتهم الاستهلاكية ويشاركهم رؤيتهم نحو اقتصاد يحسن من جودة حياتهم ويرفع من قدرتهم على الإنفاق، مما يعزز من شعبيتهم لدى هذه الفئات.
تحليل البيانات الضخمة لتوجيه رسائل استهلاكية مخصصة: تعتمد الحملات على تحليل البيانات الضخمة لتفهم تفضيلات وسلوكيات الناخبين، حيث يتم توجيه الرسائل الانتخابية بطريقة تتوافق مع اهتماماتهم الاستهلاكية. على سبيل المثال، يمكن لحملة انتخابية تحليل بيانات الشراء والمعلومات الشخصية لتصميم رسائل ترويجية تتحدث عن تحسين الوضع المالي للفرد أو تعزيز الأعمال المحلية. تُستغل هذه البيانات لتحديد الفئات المستهدفة بالوعود الاقتصادية، مثل العائلات ذات الدخل المتوسط التي تهتم بتكاليف المعيشة، ويتم توجيه الرسائل إليهم بوعود تخفيض الضرائب وتسهيل القروض الشخصية.
توظيف وسائل التواصل الاجتماعي للإغراق الإعلاني وتشكيل الرغبات: تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في إيصال الرسائل المصممة بعناية لكل شريحة، حيث تستخدم الحملات أساليب الإعلانات الممولة والمحتوى المستهدف لتعزيز توجهات الناخبين الاستهلاكية. من خلال عرض صور ومنشورات توحي بنمط حياة استهلاكي، يتم توجيه الناخبين نحو دعم المرشح الذي يعدهم بتحقيق هذا النمط.
تستفيد الحملات من استراتيجيات مثل “التلاعب بالخوارزميات” للوصول بشكل متكرر للناخبين وعرض شعارات أو مقاطع مصورة عن “الحلم الأمريكي” كرمز للحياة المثالية، مما يعزز الرغبة في تحقيق هذه الصورة الاستهلاكية. ربط النجاح الاقتصادي الشخصي بالنجاح الوطني: تستخدم الحملات استراتيجية ربط الرفاهية الشخصية بالوطنية، من خلال تعزيز فكرة أن النمو الاقتصادي الشخصي للمواطنين هو جزء من نجاح أمريكا ككل.
يُعرض المرشح كحامٍ للاستقلال الاقتصادي ومستعد لخلق فرص استثمارية وتجارية تُحسن من مستوى المعيشة للمواطنين، مما يجعلهم يرون في دعمهم له دعمًا للوطن بأكمله. ويُستغل ذلك من خلال وعود مثل “أمريكا أقوى اقتصاديًا”، حيث يُروج أن نجاح أمريكا الاقتصادي يعكس نجاح الأفراد ويمنحهم القدرة على استهلاك ما يحتاجونه بحرية وأمان. التأثير على القيم الاجتماعية بتعزيز “حلم الرفاهية”: تستفيد الحملات الانتخابية من أسطورة “الحلم الأمريكي” وتروج لأن المرشح يمكنه جعل هذا الحلم أكثر واقعية، بوعود تركز على تحسين مستوى المعيشة وتسهيل الوصول إلى فرص التعليم والرعاية الصحية والرفاهية.
يتم تقديم هذه الوعود كجزء من ثقافة الاستهلاك لتحقيق الطموحات الشخصية للأفراد والعائلات. يتم استغلال مشاعر الرغبة في النجاح والرفاهية عبر استراتيجيات تُشعر الناخب بأن التصويت للمرشح يعزز فرص تحقيق أحلامه الاستهلاكية، ويمنحه مستقبلاً زاهرًا من الراحة الاقتصادية والاجتماعية.
إضعاف ثقة الناخبين بالمنافسين من خلال الترويج للاستهلاك المدمر: تُستخدم أساليب الهندسة الاجتماعية لتقويض ثقة الناخبين في المنافسين عبر تصويرهم بأنهم غير قادرين على تعزيز الاقتصاد أو لا يهتمون برفاهية المواطنين. يتم الترويج للمنافسين على أنهم “ضد المستهلك” أو يؤيدون سياسات تقشفية تؤدي إلى تقييد الرغبات الاستهلاكية. من خلال حملات تُظهر المرشح المنافس على أنه معارض للنمو الاقتصادي، يُدفع الناخبون إلى الشعور بالقلق على مستقبلهم الاقتصادي ويميلون لدعم المرشح الذي يقدم نفسه كضامن للرفاهية.
في الختام، تثير الهندسة الاجتماعية وثقافة الاستهلاك تساؤلات عميقة حول حرية الفرد واستقلالية اختياراته في ظل التلاعب المتزايد بالعواطف والأفكار. فالهندسة الاجتماعية، رغم فعاليتها في توجيه الرأي العام، تسهم في خلق بيئة يتضاءل فيها التفكير النقدي، حيث يُدفع الأفراد لاتخاذ قرارات ليست بالضرورة نابعة من إرادتهم الحرة، بل نتيجة تأثيرات مدروسة تسيطر على رغباتهم. وفي المقابل، تُغذي ثقافة الاستهلاك هذه البيئة، جاعلةً من السعادة والرفاهية أهدافًا ترتبط بشراء المنتجات والخدمات، مما يعزز نمط حياة يتسم بالتبذير المفرط واستهلاك الموارد بشكل غير مستدام.
إن الاعتماد المفرط على استراتيجيات الهندسة الاجتماعية وثقافة الاستهلاك في الحملات الانتخابية والتسويق يعكس صورة من الاستغلال التجاري والسياسي لمشاعر الناس واحتياجاتهم، مما يؤدي إلى خلق مجتمع يعاني من التبعية الاقتصادية والاجتماعية. لذلك، يحتاج الأفراد والمجتمعات إلى وعي نقدي يمكنهم من مقاومة هذه التأثيرات، وإعادة النظر في أولوياتهم وقيمهم بعيدًا عن المغريات الاستهلاكية التي تعززها وسائل الإعلام وأدوات الهندسة الاجتماعية.