سياسة
أتفهّم تمنّيات الجميع بأن يكون كلّ هذا غير حقيقي، لا أحد يحبّ الشعور بالعار إلى هذا الحد، هكذا أتمنى أنا الآخر خاصّة في هذا الموضع الذي لن يُمحى ضرره ولو بعد ألف سنة، لكنّ الوقوع في “الإنكار” لمجرّد الهروب من ثقل هذا الشعور، والذي سينفي عن الراغب الوصول لأيّ حقيقة في أي وقت.
لكني أستغرب هذا القفز على الثابت من الوقائع وخلط المعلومات بالأماني، وانطلاق موجة الأسف والندم على مشاركة هذه “الأكاذيب” و”الشائعات”، واتّهام مصادر نشرها أو إعادة نشرها بكلّ شائنة، على لسان المناصرين بعيدًا عن صبيان السلطة وكلاب زفّتها.
لنعيد النظر إذًا فيما جرى منذ اللحظة الأولى، ربّما نكتشفُ شيئًا يفاجئنا كما تفاجأتم، ويهدم ما بناه الواقع بطول الأسابيع الماضية منذ كشفت الجهود الوطنيّة الفلسطينيّة والنشطاء والمنظمات المعنيّة بالوقوف في وجه آلة الإبادة عن تحرّك “كاثرين” من فيتنام محمّلة بشحنة من المواد المتفجّرة في طريقها إلى فلسطين المحتلّة.
في 21 يوليو الماضي انطلقت السفينة إم في كاثرين بشحنتها من ميناء هاى فونغ الفيتنامي متّجهة إلى إسرائيل محمّلة بثمانِ حاويات من مادّة دي آر إكس هيكسوجين المتفجّرة، كما قالت بعض التقارير أن النصف الآخر من الحمولة كان من مادة التي ان تي المتفجّرة، كما ظهرت نقاط توقّف مختلفة كـ الجبل الأسود وسلوفينيا، وقالت بعض التقارير إنّ سلوفينيا كانت هي محطّة النقل لإسرائيل بواسطة سفينة أخرى، إلا أنّها رفضت إستقبالها بعد ضغوط، ولم يتم التيقّن من وسيلة وآليّة نقل الشحنة لإسرائيل، كما ألغيت الوجهة النهائيّة للسفينة -دولة الاحتلال- بناءًا على دعوى استئناف قضائيّة داخل ألمانيا أقامها محامون ألمان، بحسب وكالة رويترز.
– في أغسطس اقتربت السفينة من المياه الإقليميّة الناميبيّة وخفّضت من سرعتها استعدادًا للرسوّ، لكنّ السلطات الناميبيّة ألغت تصريحها ورفضت دخولها المياه الإقليميّة، بناءً على مذكرة قدّمتها وزيرة العدل ، وبالفعل غادرت السفينة بمسار رأس الرجاء الصالح تجنّبًا للمرور بمنطقة نفوذ أنصار الله وتحسّبًا لاستهدافها من قبلهم.
– في سبتمبر وبعد ضغوط مشتركة من الحملة الدوليّة لتتبع السفينة “كاثرين” على حكومة البرتغال ومناشدة المقررة الأمميّة المعنيّة بالأراضي المحتلّة للبرتغال، وكذلك الطلب الذي قدّمه المركز الأوروبي للدعم القانوني لإزالة العلم البرتغالي عن السفينة لتفادي التواطؤ في الإبادة الجماعيّة قررت الحكومة البرتغالية إنزال علمها عن السفينة، واستبدل بعلم ألمانيا.
– وبحسب وزير الخارجيّة البرتغالي، جاء هذا القرار اتفاقًا مع التزامها بالمادة الأولى من اتفاقيات جينيف، وحرصًا على عدم خرق اتفاقيّة منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعيّة.
– في سبتمبر أيضًا طلب طاقم السفينة “كاثرين” الرسوّ على شواطيء مالطا، للتزوّد بالوقود والمؤن وتغيير الطاقم، وهو الطلب الذي قوبل بالرفض بحسب موقع مالطا توداي، بعد ضغوط من حركة مقاطعة إسرائيل ونشطاء على الحكومة المالطيّة، ومنعت السفينة من الرسوّ في أي ميناء مالطيّ، كما رفضت وزارة النقل في مالطا تزويد السفينة بالطعام والماء حتى خارج مياهها الإقليميّة.
– في أكتوبر اتّجهت السفينة نحو كرواتيا، كوجهة محتملة إلا أن ضغوط ورسائل وجّهت إلى وزير الخارجيّة، أدّت إلى رفض كرواتيا هي الأخرى رسوّ السفينة في موانيها أو تقديم الخدمات لها.
– تكرر الحال مع كلّ الدول التي حاولت السفينة الالتجاء إليها، وظلّت منبوذة بالبحر، باستثناء توقّفها الوحيد في ألبانيا والذي تمّ تأويله في أكثر من اتّجاه، ليس موضع تحليله أو الوقوف عليه ردًّا على ما أثير بشأنه.
– لم يعرف أحد بقدوم السفينة إلى الإسكندرية إلا بعد كشف جماعات الضغط والحملة العالميّة لتتبّع السفينة عن وجهتها وإعلان ذلك مع مناشدة السلطات المصريّة عدم استقبالها.
هذا التتابع الزمني ليس الغرض منه استعراض المسار الذي غالبًا ما تابعه الكثيرون وغطّته الوسائل كافّة، لكنّ القصد منه هنا التأكيد على عدّة نقاط:-
أولاً: أن الثابت وجود هذه الشحنة من المواد المتفجّرة على السفينة، وأنّ الوجهة النهائيّة للشحنة هي دولة الاحتلال لتغذية آلة الإبادة.
ثانيًا: أنّ مصادر رسميّة في أربع أو خمس دول على الأقل (ناهيك عن المنظّمات الحقوقية وجماعات الضغط حول العالم) كانت طرفًا في هذه المعلومات، بل واتّخذت قرارات حكوميّة تخصّ موانيها ومياهها الإقليميّة لتجنّب التورّط في خرق اتفاقية منع الإبادة وغيرها من الاتفاقات الدوليّة.
ثالثًا: أن السلطات المصريّة أصدرت ثلاث بيانات/تصريحات تخصّ السفينة بعد انتشار فضيحة استقبالها محليًّا ودوليًّا وبلوغ أصداء ذلك إلى عموم المواطنين ناهيك عن المنظمات والأحزاب والإعلام في الداخل والخارج، التصريح الأوّل على لسان “مصدر رفيع المستوى” نفى جملةً وتفصيلاً ما أسماه بالشائعات بخصوص السفينة واستقبال مصر لها. ثم تبعه بيان/تصريح للمتحدّث العسكري ينفي تورّط القوّات المسلّحة في أيّ شكل من أشكال مساعدة أو دعم أو التعاون مع دولة الاحتلال في عمليّاتها.
وأخيرًا؛ أصدرت وزارة النقل بيانًا تنفي الشائعات بشأن السفينة في الفقرة الأولى، لكنّها تؤّكد استقبال السفينة واستقبال شحنة المواد المتفجّرة، لكنّها ادّعت كون ذلك لصالح وزارة الانتاج الحربي المصريّة.
وبإضافة أحد مصادر نشر تتبع السفينة لمعلومة رسوّها لبعض الوقت في ألبانيا قبل مجيئها في الإسكندرية (المعلومة قديمة وإن نُشرت متأخرّة) هاجت السلطة وصبيان إعلامها ولجانها للتشكيك في كلّ الرواية وانطلقت من هذه المعلومة-لا غيرها- لهدم السرديّة السابقة بالكامل، ووصل الأمر لاتّهام الذين ساهموا في نشر مسار السفينة وفضيحة استقبالها بالإسكندرية بنشر الأخبار الكاذبة وتهديد الأمن القومي في زمن الحرب (أي حرب؟!).
لكن يبدو أنّ هذا الهياج الرسمي والمترسمن وبعدهُ بعض المنكرين يتجاهل بعض الحقائق، والتي أوّلها أن السفينة بناءً على المصادر الحكومّة والأمميّة والحقوقيّة كانت تحمل هذه الشحنة، لصالح إحدى الهيئات العسكريّة للعدوّ، وأن ميناء الإسكندرية استقبلها -رغم النفي المبكّر- على رصيف 22 الحربي، بوكيل بحري مصري أحد أهم نقاط وكالته تتعلّق بالرحلات مع موانئ العدو.
كما تتجاهل هذه الحملة المضادة التي تتشكّل حقيقة أخرى ثابتة وهي انطلاق السفينة “ترانسباي” التي ترفع علم ليبيريا من ميناء الإسكندرية بعد ساعات من تفريغ “كاثرين” لشحنتها، ببيانات مشابهة (شحنة حربيّة) وبذات الوكيل البحري المصري/المتصهين(المكتب المصري للخدمات البحريّة-إيمكو) وإلى ذات الوجهة (ميناء أسدود) دون أن تعلن أي جهة مصريّة حتى اللحظة عن أي بيانات بشأن هذه السفينة وحمولتها والغرض منها وحقيقة التورّط المصري الرسمي في هذا النوع من النقل.
لم يشرح أحد لماذا غيرت هذه السفينة “ترانسباي” وجهتها المعلنة (ميناء أسدود مباشرةً) وتوقّفت في ميناء الإسكندرية، وتخطّت دور الانتظار والرسوّ السابق إعلانه في الميناء، وبقاء خطّها الملاحي وموعد وصولها مجهولين على غير عادة مثل هذه الرحلات.
وأخيرًا وصولها العلني -الذي يمكن تتبعه من قبل أي شخص حول العالم- يوم 30 أكتوبر إلى ميناء أسدود في فلسطين المحتلّة (ذات الوجهة السابق إعلانها لشحنة المواد المتفجّرة التي كانت تحملها السفينة كاثرين).
تجاهل النائب العام -حتى اللحظة- أو حفِظَ، كما تواردت الأنباء البلاغات الجماعيّة بشأن الواقعة/الفضيحة، ولم يُفتح أي تحقيق رسمي فيها يحترم حقّ المصريين (والعالم؟) في المعرفة، كما في تبيان حقيقة تورّط السلطة في الإبادة الجارية بحقّ أهلنا في فلسطين ولبنان.
ولا أظنّ أحدًا تفاجأ بالجريمة الصاعقة (العلنيّة الرسميّة الثابتة بالدليل القاطع) التي مثّلتها عبور الفرقاطة “ساعر” التي تحمل علم العدو -وبجانبه علم مصر- من قناة السويس بحجج وتبريرات واهية وملفّقة ، ولعلّ هذا هو موضوع نقاشنا الأسبوع القادم لنتبيّن حقيقة الموقف الرسمي من الإبادة.