مدونات
الكاتبة: غيداء حسن عويضة
لأولِ مرّة مُذ عرفتها لن تكون رسالتها هي الأولى في هذه الليلة. لطالما اعتقدتُ أنّ يوم ذكرى الميلاد هو اليوم الذي تخرج فيه المشاعرُ المختبئة والتي عادةً ما تكون حقيقية جدًا. كنتُ أنتظر ماذا يخبْئن لي صديقاتي من كلماتٍ ستجعلني أبكي تأثرًا من جمال الود اللاتي يحملنه لي، أما جومانة فتكون تهنئتها فريدة مثلها فيها من الحب والاحتواء ما يجعلني محظوظة دون غيري.
في تلك الليلة تحديدًا، كانت تدعو لي دعوات صادقات أشعر بهن كلما تيّسر لي أمرٌ أو رُزقت دون حَول مني أو أَمِنْتُ من خطر ما ومن ثم نبدأ بالمكالمة التي تكون ضحكًا لا كلامًا فأبتهج كأني لا أعرف ماذا كانت تعني البهجة من قبل. فقد رحلت صديقة قلبي ورحل هذا كلّه معها وبقيت أنا أحيا على الذكريات وأقتات على بقايا جميل الشعور.
تمر الذكريات أمام ناظري فينبض خافقي خوفًا من الكِبَر الذي يُحتّم عليّ أن أصير أقوى من كل شيء حتى وإن كان أثقل من أن يُحتمل. تجبر قلبي تارّة وتكسرني في وقت قوتي تارّة أخرى. يحتاج قلبي لها كلّما شعرت أنّ النسيان قد أصابني من هول ما نعيش فأذكر تفاصيلها صغيرها وكبيرها فأفرح وقتها لأنّ شيئًا جميلاً ما زال عالقًا ولم يسلبوه مني ككل شيء. أجدها أيامًا كان جلّ الشعور فيها هو الأمان الذي أكثر ما أرجوه الآن ولا زلت أبحث عنه.
ثلاثةٌ وعشرون عامًا لم تحمل لي هذه الليلة شعورًا كالذي أشعر به الآن. هل أحتفل أنني نجحت في اختبار البطولة الذي عُقد منذ أكثر من عام؟ أم أحتفي بنفسي التي صبرت رغمًا عنها وتحمّلت مشاعر حقد دفين لم تكن تعرفه؟ هل أكافئ نفسي على محاولة تخطي الفقد وما فعل بقلبي أم أهيئها للمزيد؟ إذا فعلت هذا كله، فلن أكون قادرةً على شكر نفسي على الطمأنينة التي لم أستطع أن أهبها إياها فالخوف عديد المصادر تشبّث بي ولم يتركني إلى الآن. كلّما طمأنت جزءًا منه فاجئني الآخر بمنطقية أكثر فأخاف أكثر.
أثر هذا الخوف لازمني لوقت طويل أكثر مما توقعت. نسيت كيف يأمن المرء وكيف يعيش في يوم لا قصف فيه. نسيت كيف كنا ننام دون التفكير في ماضٍ سُلب وفي حاضر يقتلنا بكل الطرق وفي كل حبيب تحت الخطر لا أعرف كيف أصل لهم. كيف سيكون الأمان بعد خوف تقلّد فينا؟ سؤال يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار دائمًا ولا إجابة تفيه حقه.
أتساءل دومًا: أليس من حق قلوبنا علينا أن تبكي مَن وما فقدت؟ أم لم يحن ميعاد هذا البكاء بعد! تتناوب الأيام واحدًا تلو الآخر بتشابهٍ غير مرغوبٍ فيه. نتأقلم يومًا أو نضطر للتأقلم وفي اليوم الآخر، تكسرنا أيامنا التي مضت دون العناء الآني. ابتذالٌ في الكلمات يُتعب القلبَ المُنهَك من قبل. فكيف نَصِفُ حالنا للسائلين عنّا؟ نحن حينما نكتب عمّا تشعر به القلوب لا نكتب عن قلوبنا الموجومة فقط، بل يصل الكلام إلى كلّ مَن أفقدتْه الحربُ القدرةَ على الكلام فنساعده على تضميد جرحه ورسم طريق نجاته. كيف لا وكلّنا هنا نتشارك في الألم ذاته، والحزن ذاته، والشوق ذاته، والبعد ذاته.
ننتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر، اللحظة التي نسمح لما تبّقى من قلوبنا أن تبرأ. اللحظة التي تخرج بها حقيقة ما تشعر به تلك القلوب. اللحظة الأغلى والأسرع والأضعف. كلٌ فيها يبكي مدينته وأهلها. بها، تُبكم الأفواه بالأكنّة وتُوقر الآذان وتُكتم أي فكرة سوى الحزن. بها، نذكر كلّ وداع لم نحضره، وكلّ فاقد لم نكن معه لنواسيه، وكلّ حلم دُفن في مقبرة جماعية حيث لا أثر له. هي لحظة واحدة، تأتي مرّة وقد لا تأتي فالأحداث بتسارعها لا تمّكنك من انتشال نفسك من نفسك حتى للحظة! فالحصول عليها أشبه بالحصول على إنسان شريف يقف وقفة رجل مع المستضعفين! فتعرف وقتها أنّك وُهبت رفاهيةً ليست لغيرك، فعليك اغتنامها.
كُتب لنا أن تكون الرفاهية التي نُجبر على اختيارها هي رفاهية الحزن في عالمٍ لا يعرفها. وكُتب لنا أن تكون بلاغتنا وحروفنا نَفَسًا نقتلعه لكي لا نموت قهرًا فالموت قهرًا صار عاديًا هنا. أصاب اليأس كلّ شيء فينا إلا مناجاتنا لله. هو الملجأ والمأوى وربّنا في قوتنا وضعفنا وهو الذي لا نهون عليه فنحن عباده ولن يضيعنا.