سياسة
هنا، حيث ترى المشهد ولا تصدق عينيك، أرض مباركة سالت عليها دماء آلاف العمال المصريين، ونزفت فوقها جراح الطيبين، واختلط العرق والدم والماء، واجتمعوا في مجرى واحد، صار بحول الله -وسواعد الشهداء ومعاولهم- بحرا جديدا، لكنه بلا موج، كأنه يعلن بطريقته حدادًا أبديا على الضحايا المجهولين الذين راحوا في شق القناة، فكانوا لا يحفرونها في السويس وحسب، وإنما يحفرون معها مقابرهم، وكان ذلك -على مرارته- عسلًا على قلوبهم، في سبيل أن تكتسب تلك الأرض المثقلة شيئا ما، وتكون محورًا تتقاطع فيه بواخر الدنيا، فينالها من الحظ جانب.
هنا، حيث تسمع صفير الفرقاطة ولا تصدق أذنيك، سالت دماء أولادهم وأحفادهم مجددًا، في البقعة ذاتها للحفاظ على الميراث، وتحريره من مواثيق الدنيا الظالمة، ومن هيمنة القوى المظلمة، فحاربوا عليها، وغرسوا أقدامهم في مدنها، حتى كان مهر الرمال أن تبلعهم، فلا تذهب إلى غيرهم أبدًا، وقد كان، فانتشرت البطولات كأنها أسطورة، وتبارى الفرسان كأنها الصولة الأخيرة، وتنافس الولدان في إثبات حب الأرض، ولو بالانتماء إلى أهل السماء، وتوكلوا على رب الأرض والسماء، فحملوا السلاح مجندين مخلصين، أو مقاومين شعبيين، يذيقون العدو ويلات وطء أرض مصر، راسمين ملاحم تاريخية في كيف تدهس “إسرائيل” حيثما أرادت الارتفاع، وكيف تمرغ في التراب أنفها حيثما أرادت رفع رأسها، فكانت مدن القناة مقبرةً لمن حاولوا العبور، ثم كان العبور لمن ذاد عن مدن القناة.
هنا، حيث تشم رائحة البحر محزونةً ولا تصدق رئتيك، كان أصحاب الأرض يستنشقون البارود أكثر من الأكسجين، وتتساقط فوقهم الغارات كأنها المطر، ويعيشون الموت كأنه الحقيقة الوحيدة في الحياة، وتختلط عليهم روائح الملوخية بروائح القصف والنيران والجثث، ويحاولون التنفس فلا يجدون نافذةً مفتوحةً إلا فوهة البندقية، فيأخذونها، ويتنفسون منها الممات والمحيا على السواء معا، حتى ينالوا إحدى الحسنيين، لكن الخيار الثالث بأن يتنفسوا الذل ويعيشوا بعده لم يكن واردا على أي حال، فهنا القناة التي لم يشقّها الأولاد في الأرض بقدر ما شقوها في أجسامهم، فكانت شريانا نابضًا بالدم، لا مجرى تعبر منه المياه، وإن كانت ممرا عالميا للتجارة، فذلك لم يكن يعني بأي حال أن تكون هي ذاتها للبيع!
وهنا، حيث تكاد تلمس الماء والتراب ولا تصدق ما تلمسه من أثر الخيانة والفاجعة عليهما، سالت أول قطرة دماء في ثورة يناير، هنا حيث يحفظ الجميع الخبر “سقوط أول شهيد في السويس”، للحفاظ على تلك الأرض، لعدم رؤية تلك الخيانة، لعدم استمراء عدم المروءة، لئلا يأتي يوم يُعيّر فيه المصريون بمصريتهم كأنها سبة في زمن ندرة الشرف ووفرة العار، هنا كان أول المستقبلين بصدورهم الرصاص الحيّ، في أيدي من يسرقون البلاد اليوم وما زالوا يطلقون الرصاص الحي نفسه دون توقف، في صدر من يفديها، بل تحول ذلك الضابط القاتل إلى مصاص دماء ألعن، فلو كانت يناير قتلته الأولى أو الثانية، فإن نوفمبر اليوم هو مجزرته الألف أو المليون، بحق ذلك الشعب البائس، الذي كانت لو أيدٍ ذات يوم تقبض على رقاب من يحاولون المساس به، لكنه يشعر اليوم بأنه معجّز مسلوب الحق في مجرد الحرف والكلمة، لا في الفعل والحركة!
تعبر سفينة حربية إسرائيلية، محملة بالذخيرة، والجنود القتلة، آلة إبادة كاملة تعبر من جبهة إلى جبهة، وبين الجبهتين جبهة مصر مفتوحة على مصراعيها، ترحب بالسادة الضباط، وبفرقاطة “ساعر” الحربية، وبالعلم الإسرائيلي المرفرف فوقها، وبنجمة داوود وخطي النيل والفرات، دون حاجة إلى المواربة أو الخجل، أو التآمر في الغرف المغلقة والكواليس وتحت الطاولة، فاجعة لم نكتشفها بتتبع مواقع الملاحة العالمية كما حدث مع سفينة تسبقها بيومين في ميناء الإسكندرية لشحن الذخيرة إلى الاحتلال، وإنما هذه بلا أي مجهود، علنًا، فوق الدماء والجثث التي سالت، فوق كل شيء، فوق كرامة مصر وسيادتها، فوق شرف العسكرية، وفوق شهامة الشعب، وفوق احترام التاريخ، وفوق هيبة الجغرافيا؛ كل ذلك لأن نذلًا منزوعةً دماؤه ورأسه وكرامته يريد أن يحكم تلك البلاد كما يملي عليه سادته، فعينوه رئيسا على أكبر دولة عربية إسلامية، وحكموا من خلاله جارة غزة، ومجيرة إخوتها، وغارة الله على الغزاة، حتى تحولت من قاهرة للغزو، إلى بوابة له، ومن “القاهرة” إلى “المقهورة”.
ثم يخبرونك بأنها المواثيق الدولية، متناسين بنودها التي تنص أيضًا على عدم الإضرار بالأمن القومي للبلاد، بينما يظن الحمقى والأراذل أن الأمن القومي لمصر لا يشمل سلامة غزة، التي تعيش إبادة كاملة بخمسين ألف شهيد ومائة ألف جريح ومليوني نازح في عام واحد، هذا إن أخذنا بالمواثيق الدولية أصلا، التي لا يطبقها ولا يحرص عليها إلا المغلوبون المغفلون في هذه الأرض، بينما تنص مواثيق الشرف والكرامة والسيادة والإنسانية والدين والعروبة واللسان على أن تقطع دابر سفينة كتلك، مهما بلغت درجة خيانتك، فحتى الخيانة والعمالة في هذه الحالة ليست مسوغًا لمشهد عبور البارجة الإسرائيلية الحربية من قناة السويس! فمن أين أتى قومنا بتلك الدرجة من الخيانة، فوق التي ينص عليها تاريخ الخيانة من قديم الأزل، أتوا بما لم يأتِ به الأوائل حتى في ذلك!
ولا يسعني في هذا إلا أن أذكر كلمة السيدة المحترمة العفيفة الشريفة المصرية التي شاهدت السفينة والعلمين المصري والإسرائيلي متجاورين والجندي يحرس الرصيف، ففار دمها وهي تقول “آآاه يا ولاد الكلب!”