قصّة الخبز من سنابل القمح الأولى إلى صناعة الحضارات
نوفمبر 3, 2024
92
قصّة الخبز من سنابل القمح الأولى إلى صناعة الحضارات
ماء طحين وملح، هي مكونات الخبز، هذه التحفة اللذيذة التي ساهمت في بناء وهدم حضارات، بل وغيرت التاريخ ورافقت تحضّر الإنسان وتطوره منذ القدم، فأصبحت كلمة “الخبز” تعني الرزق و”العيش”، وتُضرب الأمثال بها فيُقال: “فلان يركض وراء خبزته” أي يتبع مصدر رزقه، أو “فلان خبز ليلته ما عنده” كناية على الفقر والاحتياج.وعلاوة على ذلك، يعكس الخبز تاريخًا طويلًا من الابتكار والتطور التقني، فمن صناعة العجائن البسيطة في أقدم العصور إلى الخبز المعقد والمتنوع الذي ننعم به اليوم.
فما سرّ هذا الارتباط العجيب بين الإنسان والخبز؟ ولماذا الخبز، دون سائر الأغذية الأخرى؟ ميلاد الرغيف الأول عرف الإنسان الخبز منذ أكثر من عشرة آلاف سنة، حين حرّكت حبات القمح الأولى غريزة الجوع لديه فاستعمل الصخور الخشنة لطحنه وتحويله لعجينة بإضافة الماء، ثمّ طهيه.
أول خبز صُنِعَ كان في منطقة الشرق الأوسط، ويرجّح بعض المؤرخين أن المصريين القدماء هم من طوّروا وصفات الخبز والأفران، وهم أول من استعملوا الخميرة الطبيعية. كما يرجّح آخرون أنّ أول رغيف خبز وُجد في الأردن، إذ عثر الباحثون على بقايا خبز في موقد حجريّ في منطقة شمال شرق الأردن.
الخبز والثورة عبر التاريخ
استخدمت الأنظمة المستبدة الخبز للسيطرة على الشعوب، دون إدراك لرمزيته الحقيقية ضمن حقوق الإنسان والعدالة، وهذا أدى لظهور ثورات وانتفاضات. ومن أشهر ثورات الشعوب التي انتفضت بسبب شحّ الخبز: الثورة الفرنسية عام 1789، الثورة البلشفية في روسيا وشعارها “الخبز والسلام والأرض للجميع” عام 1917، انتفاضات عربية في: مصر، المغرب، السودان، الجزائر رفعت شعارات تدعو للمساواة في حقّ الحصول على الخبز. وغيرها الكثير، وكان الخبز أبرز محرّك لأغلب الثورات في العالم، فقد يصبر الإنسان على أقسى أنواع الظلم والاضطهاد، لكنّه لن يصبر على حرمانه لقمة عيشه.
إذا لم يجدوا الخبز فليأكلوا الجاتوه!
عام 1789، وجدت ماري أنطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر نفسها في مواجهة مع جموع الفقراء الذين احتشدوا خارج أسوار قصرها، يطالبون بأسعار معقولة للخبز. فخاطبتهم قائلة: “إذا لم تجدوا الخبز، فلتأكلوا البسكويت” في تعبير صارخ عن عمق الفجوة بين المعيشتين في المجتمع الفرنسي. أدبُ الخبز للخبز حضور كبير في الأدب لرمزيته الكثيفة، فلم يقتصر على كونه مادة تلبي احتياجًا وتشبع غريزة، بل تعدى ذلك ليتحول إلى دلالة ذات أبعاد ثقافية واقتصادية وتاريخية. فتغنى به الأدباء والشعراء في نصوصهم وقصائدهم، ومن أبرز ما قيل فيه: محمود درويش في مجموعته “أرى ما أريد” “إني أَرى شعوبًا تُفتِّشُ عن خبزها بين خبز الشعوبْ هو الخبزُ، يَنْسُلُنا من حرير النعاس، ومن قُطْن أَحلامنا أَمِنْ حَبَّة القمح يبزغُ فجر الحياة وفجرُ الحروبْ؟
الأمثال الشعبية
ونرى حضورًا أبرز للخبز في الأمثال الشعبية، فيُقال: “بيننا خبزٌ وملح”، دلالة على العلاقة الطيبة. ويقول العرب أيضًا:”عض قلبي ولا تعض رغيفي”، أي أنني مستعد لتحمل أي ضغط نفسي وعاطفي، إلّا المساس بلقمة العيش.ويقول الرّوس في أشهر أمثالهم الشعبية: “إذا تشارك أسوأ الأعداء الخبز والملح فلسوف يتصالحون يومًا ما”.
ومن خلال رحلة تاريخية عبر الزمن، ندرك أنَّ جذور الخبز تتعدى مجرد الحاجة الغذائية، إذ تعكس تفاصيل حياة الإنسان وتحولات مجتمعاته. وفي كل مرحلة من تاريخ الخبز، نرى قصة تتشابك مع قصص الناس وتفاصيل حضاراتهم. واليوم، وبالرغم من التقنيات الحديثة وتطور الصناعة الغذائية، يظل الخبز رمزاً للتلاحم الاجتماعي والتراث الثقافي، ففي كل رغيف نجد جزءاً من تاريخ الإنسانية وروح الجماعة.