سياسة
“في منتصف الليل، قبل عدة أيام، استيقظت عندما سمعت صوت محرك، كان قريبًا للغاية، في هذه اللحظة كنت واثقًا أن مُسيرة تحلق فوق رأسي، كنت مرعوبًا، اكتشفت بعدها أن صوت المحرك كان لدراجة نارية”، بهذه الكلمات تحدث رئيس اتحاد العاملين في الصناعات الجوية الإسرائيلية يائير كاتس ليديعوت أحرونوت عن هذا المحرك الذي أيقظه من نومه، واختلط عليه بصوت محرك المسيرات الغاضب، الذي قض مضاجع ملايين الإسرائيليين خلال الشهور الماضية.
يشاطر يائير كاتس، في “فوبيا المُحرك” رئيس الوزراء الإسرائىلي بنيامين نتنياهو، خصوصًا بعد أن نجحت مسيرة في التلاعب بالدفاعات الجوية الإسرائيلية منتصف الشهر الماضي والانفجار في غرفة نومه بمنزله في قيساريا، ما جعل نتنياهو الآن يتلفت من حوله، للدرجة التي دفعته لطلب تأجيل جلسة محاكمته خوفا من استهداف المحكمة بمسيرة أثناء تواجده بها، وربما يتراءى للذهن أن هذه حيلة لتهربه من المحاكمة ولا علاقة له بـ “فوبيا المسيرات”، ولكن الدليل الأكبر على مخاوفه منها، ما نقلته هيئة البث الإسرائيلية عن نيته تأجيل حفل زفاف ابنه بسبب مخاوفه من هجمات الطائرات بدون طيار التي قد تستهدف مكان الحفل.
كيف بدأ الأمر؟
من المعروف أن الجيش الإسرائيلي يعتمد بشكل شبه كلي على قوة سلاح الجو، للدرجة التي دفعت الجنرال دان حالوتس، رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق للقول عنه “إنه ليس فقط قوة هجومية، بل هو سلاح الردع الإستراتيجي الذي نعتمد عليه” مقتبسًا عن سِفر إشعيا التوراتي: “وأما منتظرو الرب فيجددون قوتهم، ويرفعون أجنحتهم كالنسور”.
ولذلك اجتهد منظرو حزب الله العسكريين في محاولة لصناعة بديل عن سلاح الجو، ولخلق معضلة في الأجواء الإسرائيلية، وكان هذا الحل موجودا عند الإيرانيين في ذلك الوقت.
إذ انتشر حديثًا مقطع فيديو قديم، لقيادات بارزة من حزب الله أثناء حضورها ما يشبه استعراضًا لمسيرات إيرانية، ويبدو أن المقطع كان قد سُجل نهاية التسعينات وأوائل الألفينات.
تاريخ المقطع يعكس اهتمام حزب الله في وقت مبكر بأهمية استغلال هذه المحركات الصغيرة الطائرة لمحاولة خلق شيء ما في الأجواء الإسرائيلية، قبل أن تزيد الزيارات المكوكية لمقاتلي الحزب إلى إيران، للتدرب على كيفية استخدام المسيرات بأنواعها المختلفة، وكذلك لمعرفة طريقة صناعة بعض نماذجها. كل هذا لم يكن في العلن، حتى لحظة الظهور الأول عام ٢٠٠٤.
ربما نالت هجمات المسيرات شهرة ورواجًا أكبر مؤخرًا، مع إطلاق حزب الله “مسيرة الهدهد” يونيو الماضي، ونشره مقطعًا عالى الجودة من مدينة حيفا وقواعد عسكرية إسرائيلية ضخمة، وما أعطى الحدث أبعادًا أكبر، أن الهدهد تجول فوق منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي المختلفة، سواءً تلك المتواجدة في العمق أو المتراصة في القواعد العسكرية، إلى جانب تصويرها بوارج “ساعر” الحربية التي تمتلك هي الأخرى أنظمة رادار ودفاع جوي خاصة بها، دون قدرة هذه المنظومات جميعها على رصد المسيرة فضلًا عن إسقاطها، لكن مسيرات حزب الله لم تكن وليدة الحرب الحالية.
ففي غمرة الانتهاكات الإسرائيلية للمجال الجوي اللبناني عام ٢٠٠٤، أطلق حزب الله طائرة مسيرة استطلاعية أطلق عليها اسم “مرصاد ١”.
هذه المسيرة قامت بجولات في أجواء قواعد عسكرية وبلدات إسرائيلية في الشمال، وصولًا إلى مدينة نهاريا الساحلية، وعادت بكنز استخباري، أتبعها الحزب بطائرة ثانية، وثالثة، قبل أن يفجر مفاجأة كبرى عام ٢٠١٢ بإرسال مسيرة “أيوب” التي قطعت قرابة ٢٠٠ كيلومتر، ووصلت لمفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي الشهير.
هذا التطور المتسارع أنتج زلزالًا أمنيًا للجيش الإسرائيلي آنذاك، انعكس على الاهتمام الإسرائيلي المخابراتي والجهد النشط لفهم حزب الله وقدراته العسكرية، خصوصًا هذا السلاح النوعي، ويتضح ذلك من حجم التقارير الأمنية من المراكز البحثية الإسرائيلية عن حجم قوة حزب الله، علمًا أن هذا التقارير لا تساوى ولو١٪ من الجهد المخابراتي السري لمحاولة فهم تسليح الحزب عددًا وكيفية.
لم يتوقف الحزب عند الطائرات الاستطلاعية دون طيار، بل استثمر أكثر بمساعدة الإيرانيين، وزاد مخزونه الكمي والكيفي من المسيرات، أبرزها “هدهد” الشهيرة التي افتتح بها الحرب، و”مرصاد” التي هاجم بسرب منها معسكر تدريب للواء غولاني جنوبي حيفا، ما أسفر عن مقتل ٤ جنود إسرائيليين وإصابة ٦٧ جنديًا آخرين بينهم حالات خطرة طبقًا للإسعاف الإسرائيلي.
كما برز دور مسيرات هجومية انقضاضية أخرى مثل “أبابيل” بالإضافة إلى أنه من المحتمل أن يكون لدى الحزب مئات المسيرات التجارية رخيصة الثمن، لإتمام مهام الاستطلاع الميداني في المواجهات المباشرة.
ولكن ما الذي يجعل هذا السلاح كابوسًا أشد خطورة من الصواريخ التي تُطلق على إسرائيل يوميًا؟
الموت طائرًا
صُنعت أنظمة الدفاع الجوي لرصد وملاحقة الطائرات، وكلما تقدمت صناعة الطائرات، زادت سرعتها، وكذلك كلما تطورت أنظمة الدفاع الجوي، استطاع الرادر الخاص بها كشف الأهداف (أي الطائرات) السريعة، من خلال بصمتها الحرارية أو الرادارية، لكن طريقة عمل المسيرة تختلف، وتطورها يتنوع كذلك، فالسرعة ليست شرطًا وبصمتها الحرارية ضئيلة بقدر حجمها الصغير مقارنة بالطائرات الحربية، ما يشكل معضلة بالغة للرادار في تحديد المسيرة.
عندما وصلت المسيرة “يافا” اليمنية شواطىء تل أبيب، واقتحمت المدينة وأصابت هدفها بالقرب من السفارة الأمريكية، أشار تحقيق الجيش الإسرائيلي أن جنوده المسؤولين عن الرادار اعتقدوا أنها طائر، ولم يتوقعوا أنها مسيرة، نظرًا لبطئها وحجمها الضئيل.
لكن الأمر ليس بتلك السهولة، فهناك أنظمة دفاع جوي مخصصة للمسيرات، وهناك خطر “التشويش الإلكتروني” الذي يستطيع إسقاط المسيرة، بالإضافة إلى إمكانية مطاردتها من قبل المروحيات والطائرات الحربية نظرًا لبطء المسيرات، فكيف يتعامل مشغلو المسيرات مع هذه الأعباء؟
استراتيجية حزب الله
في ظل محاولته إلحاق الضرر بالداخل الإسرائيلي، نوع حزب الله من تكتيكاته بما يتعلق بالمسيرات، بوصفها سلاحًا نوعيًا، وتدرج في استخدامها بداية من فتحه لجبهة الإسناد ٨ أكتوبر ٢٠٢٣، وصولًا لمرحلة “الحرب الكاملة” الحالية.
تكتيكات بدأت بـ”استعراض عضلات” عن طريق نشر مقاطع مسيرة الهدهد، قبل أن يبدأ حزب الله فعليًا في استخدام هذا السلاح بفاعلية، رغم امتلاك إسرائيل أحدث أنظمة الدفاع الجوي في العالم، التي جعلت قائدًا في الجيش الإسرائيلي يتفاخر “أنهم يستطيعون منع الهواء من الوصول إلى إسرائيل، لو أرادوا”.
ولكسر الدفاع الإسرائيلي، يعتمد حزب الله على عدة تكتيكات أبرزها:
١- الهجمات الهجينة: عن طريق شن هجوم يجمع بين المسيرات والصواريخ لتشتيت الدفاعات الجوية. (استخدم الحزب هذا الأسلوب في ضرب “غرفة نوم” نتنياهو، عن طريق إطلاق ٣ مسيرات تزامنًا مع إطلاق رشقة صاروخية كاملة، لإشغال أنظمة الدفاع، طبقًا لبيانات الجيش الإسرائيلي الذي استطاع رصد وإسقاط مسيرتين، فيما نجحت الثالثة في الهرب وإصابة غرفة نوم نتنياهو بشكل مباشر).
٢- الهجمات المشبعة: أسراب من المسيرات في هجمات متتالية ومن مناطق متنوعة تتم على شكل موجات، وذلك لإشغال منظومات الدفاع، ولزيادة فرصة بعض المسيرات في الوصول لأهدافها، (الطريقة التي استخدمها الإيرانيون في هجوم أبريل من العام الجاري).
ومع استمرار فعالية “مُسيرات الموت” قرر الجيش الإسرائيلي نشر جنود من وحداته على طول الحدود للبحث في السماء عن الطائرات المسيرة بأعينهم المجردة.
وبعد أن تعهد غالانت في بدايات الحرب بإعادة حزب الله ٢٠ عامًا للوراء، يتضح أن إسرائيل هي التي عادت ١٠٠ عام لما قبل اكتشاف الرادارات.
المسيرة الصغيرة هزمت القبة الحديدية، مقلاع داوود، منظومة حيتس، رادارات ساعر، وهزمت المروحيات التي طاردتها في سماء نهاريا، في معركة لم يُكتب فصلها الأخير بعد.