سياسة
عندما أتذكر خطواتي الأولى نحو المدرسة وأنا ابن السابعة٬ أستعيد مشهد ذاك العلم الأزرق الذي تتوسطه خارطة العالم بين سنبلتين٬ يرفرف فوق مبنى المدرسة الإبتدائية٬ ومبنى كل مدرسة تعلمت بها على مدار السنوات العشر التالية٬ كان ذلك العلم الأزرق هو علم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أو ما يعرف اختصاراً بـ(الأونروا).
لا أُخفيك٬ أنني كنت أشعر بنقمة كبيرة كلما نظرت لذلك العلم الذي كان يمثل بالنسبة لي العالم الذي باعنا لعدونا وأصبح يتصدق علينا التعليم والصحة وحصص الطعام وغيرها٬ لكن في الوقت ذاته٬ كان ذلك العلم يذكرني في كل طابور صباحي بقضيتي وهويتي وكينونتي٬ حيث أن هذه المدارس لا يدخلها إلا من كان يحمل إثباتاً بصفة “اللاجئ”٬ إذ ستجد اسم القرية أو “البلد الأصلي” الذي هُجّرت عائلتك منه بقوة الاحتلال المتغطرس٬ على كل وثيقة أو شهادة مدرسية ستحملها معك.
على مدار عقود طويلة من الاحتلال٬ مَنحت وكالة الأونروا أجيالاً من ملايين الفلسطينيين ذاكرة جمعية وهوية راسخة٬ تذكرهم كل يوم بمن هم ومن أين جاؤوا٬ وأن هناك حقا مصيريا في العودة إلى أرض الأجداد٬ إذ لم يكن التعليم في مدارس “الأونروا” مجرد حصص تعليمية اعتيادية٬ بل تاريخاً يدرّس يومياً٬ تُزرع به فلسطين في قلوبنا وعقولنا كالخمير في العجين.
لأجل ذلك٬ سعى الاحتلال منذ وقت طويل لاجتثاث “الأونروا” وتشويه صورتها وصنع بدائل مشوّهة لها٬ حتى وصل به الأمر مؤخراً بحظر وكالة الأونروا٬ لا لأجل قطع المساعدات وخصيصاً عن مئات آلاف اللاجئين في قطاع غزة حيث الحرب والدمار، بل لمحو حقوق اللاجئين الفلسطينيين من ذاكرة الأجيال القادمة٬ وتدمير آخر الشهود على نكبتنا التي أُغتصبت بها أرضنا بالدم والحديد والنار وتواطؤ المجتمع الدولي.
عُمر “الأونروا” من عُمر نكبتنا تقريباً٬ 76 عاماً٬ لم تتوقف بها دولة الاحتلال عن سعيها لتصفية هذه الوكالة٬ بهدف مسح كل أثر للنكبة وسحق قضية اللاجئين الفلسطينيين٬ وعملت طويلاً على إضعاف هذه المؤسسة وملاحقتها وتقليص الدعم الدولي لها واتهامها بالإرهاب ودعم حركات المقاومة أو تشغيل “الإرهابيين”.
خلال السنوات الأخيرة٬ ومع تزايد اعتراف العالم بحقوق الشعب الفلسطيني وانكشاف زيف السردية الصهيونية الإجرامية، رأت دولة الاحتلال في الأونروا عدواً كبيراً ورمزاً يهدد أساس وجودها٬ حيث تعد “الأونروا” وثيقة إثبات وجود لقضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم ومصيرهم الذي لن يكون إلا بزوال الاحتلال.
وُضِعت الأونروا تحت ضغوط سياسية واقتصادية، وسعت دولة الاحتلال وحلفائها لتقييد عملها وتقليص مواردها٬ غير أن الحرب في غزة، دفعت حكومة نتنياهو إلى اتخاذ خطوات أكثر تطرفاً٬ إذ أقر الكنيست حظراً شاملاً على أنشطة الوكالة، بما يشمل التعليم والرعاية الصحية التي تقدمها الأونروا للاجئين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة٬ ليشكل القرار نقلة خطيرة في هذا الصراع الطويل، ويطرح تساؤلاتٍ حول تداعيات هذا الإجراء الذي يهدد وجودية الفلسطينيين وحقوقهم٬ وضياع الذاكرة للأجيال القادمة في الأراضي المحتلة ودول الطوق.
يُعد التعليم من أهم ركائز عمل الأونروا، فإلى جانب نصفية حق العودة٬ سيحرم هذا القرار الأجيال الفلسطينية من الحصول التعليم غير المسمم٬ والتوعية بتاريخهم ومعاناتهم٬ مما سيؤدي إلى محو الهوية الوطنية وأي ارتباط بين الفلسطيني وحقه في أرضه.
إضافة إلى ذلك، يُهدد هذا القرار بشكل خطير الخدمات الصحية التي توفرها الأونروا، والتي تعتبر ملاذاً حيوياً لملايين اللاجئين في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية في المخيمات وخصيصاً في غزة والضفة الغربية والقدس٬ وفي الوقت الذي تواجه فيه غزة حصاراً خانقاً وحرب إبادة جماعية، يُشكل هذا الحظر ضغطاً إضافياً على 2.3 مليون إنسان٬ يعيشون أوضاعاً كارثية على مرأى ومسمع من العالم كله في قطاع غزة٬ حيث تدك مدارس ومؤسسات الأونروا التي تحولت إلى مراكز إيواء بالصواريخ الخارقة للتصحينات.
أصبحت الأونروا اليوم وبعد وفاة جيل النكبة من الأجداد٬ “الشاهد الأخير” على النكبة، فهي المؤسسة التي تقدم إحصائيات دقيقة حول أعداد اللاجئين وتؤكد وجودهم وحقوقهم المشروعة٬ وفي ظل التصفية التي تمارسها حكومة الاحتلال بحق “الأونروا” في غزة٬ تشن حملة اجتثاث للوكالة في الضفة٬ والقدس على وجه التهديد٬ حيث يعمل الاحتلال ليل نهار على إفراغ المدينة المقدسة من أهلها٬ وتفكيك المخيمات المحيطة٬ بها والتي تعد درعها في كل مواجهة مع الاحتلال.
في النهاية٬ إن التخاذل الدولي في ترك هذه الجريمة الكبرى تمر٬ سيعني إبادة حقوق اللاجئين الفلسطينيين وذاكرتهم وهويتهم٬ وسيُعطي دولة الاحتلال الضوء الأخضر لمشروع تهجير الفلسطينيين من الأراضي المحتلة بالكامل٬ ولا شك أن الصمت الدولي سيعني قبولاً ضمنياً بإنهاء القضية الفلسطينية بشكل لا رجعة فيه٬ وتتويج شطبها من فكر ووجدان العالم وأجندته السياسية. يجب أن يفهم الجميع أن هذه المعركة ليست مجرد صراع حول مؤسسة إغاثة تقدم مساعدات لشعب وقع ضحية احتلال٬ بل هي حرب تستهدف مسح الذاكرة والسردية الفلسطينية٬ وإعدام آخر الشهود عليها.