تجارب
في الثالث من نوفمبر الآن، أكبرُ عاماً إضافياً تحت نارِ الحرب، لا يبدو الأمر ممتعاً أو يضفي أيَّ جماليّةٍ جديدة، كنتُ في كلِّ عامٍ في مثل هذا اليوم أحاول الكتابة في فضاء الفلسفة الروحية حول أن يكبر الإنسان عاماً على صعيد الروح والتجربة لا على صعيد الجسد.
أصبحُ الآنَ في الرابعة والثلاثين، يبدو عمراً صغيراً بالنسبة لألمي، فإنَّ ألمي الذي عايشتهُ تَفَوَقَ على كلِّ الأعمار، كشاعرةٍ أحبّ التأمل في نوفمبر تشرين الثاني شهر المطر والحياة والجمال، أقف اليوم وأنا أتنشق البارود ورائحة الدم في كلِّ مكان، لم يعد جميلاً أبداً أن أكبرَ عاماً إضافياً في الحرب.
لكنني اكتشفت الكثير من الأشياء وأنا أكبر تحت الحرب، وعرفت أنّ الإنسان لا قيمةَ له أمام شهوة القتل، وعرفت مقصد الملائكة وهي تقول لله عز وجلّ “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك”، وفي هذا الإفساد الذي تتعجب منه الملائكة لا أجد إلا الصهاينة دليلاً عليه، ولكنني توقفتُ أمام رهان الله الجميل وهو يردّ على الملائكة قائلاً عزّ وجلّ ” قال إنّي أعلم ما لا تعلمون” وفي ردّ الله عزّ وجلّ يتجلّى الجبروت الفلسطيني في الصبر والاحتساب والتوكل على الله في كل ما يمر به الغزيّ من ابتلاءات وعذابات لا تتحملها الجبال.
أكتشف الآن كيف تتساوى الحياة مع الموت، وكيف ينزع الله الدنيا من قلبك رغماً عنك، فتصبح الدنيا مرادفاً للعدمية، ويصبح القلب كلّهُ ليس فيه إلا الله، يستغرق العارفون بالله تجارب طويلة من الشك واليقين والصبر والتجربة من أجل أن يصلوا إلى هذا المرادف في قلوبهم، بينما في غزّة نعيشه مع كلّ صاروخ ينزل فوق رؤوسنا، ندرك عدمية الدنيا ووضاعتها وقدرة الله عز وجلّ في أن ينفجر الصاروخ فيستشهد كل من في المكان وينجو مثلاً طفلٌ رضيع لا يعرف أحد كيف نجا، لأنّ احتمالية نجاته منطقياً صفر، ولكنها قدرة العظيم في الحياة والموت.
لا نحتاج كثيراً لعلماء دين حتى يشرحوا لنا قدرة الله عز وجل وماهية التسليم له، ولا نحتاج أحداً كي يخبرنا عن كرامات أولياء الله الصالحين في قرون مختلفة، كل يوم نعيشه في غزّة منذ بدء هذه الإبادة منذ أكثر من عام هي وربّي أعظم كرامة.
إنّها كرامة على أكثر من صعيد؛ كرامة الرباط في سبيل الله وهذه لا تتيسر إلا لمن اصطفاهم الله عزّ وجلّ، وكرامة الشهادة وهي أيضاً ليست اختياراً بل اصطفاء من الله عزّوجلّ، وكرامة أن تعيش كل هذه الأهوال من الفقد والجوع والخذلان وتقول لله الحمد لله أصبر من أجلك يا الله، فوالله لا يطيق ذلك إلا مَنْ أجرى الله عز وجل عليه كراماته.
وأكتشف الآن أنّه لا معيار للاكتساب والفقد؛ على صعيدي الشخصي كنتُ أظنّ بأنني حصلت على أجمل هدية في حياتي بأن يكون لي أربعة أطفال غاية في الجمال والفطنة والذكاء، ثم في لحظة لم يعد أحدٌ منهم موجوداً، وقفت أتأمل يد الله التي أعطت، وهي ذاتها التي سلبت، ويده التي بسطت هي ذاته التي قبضت وفي كل تجلياته في المحن والمنح، يعني في الرابعة والثلاثين أكتشف أنني أعود في زمني إلى الثالثة والعشرين من سنّي حين كنتُ وحدي تماماً، يعني لا أحد يعرف متى أصلاً نقطة البداية في الحياة، النفري يقول ( كلّما ظننتُ الرحلة انتهت بدأت من جديد) شيء في منتهى العجب، كنت أقرأ ذلك، وكنت أستمع له من تجارب الآخرين، لكنني فجأة عشت كل هذه المعاني الهائلة، وهذا بالمناسبة أمر مختلف على صعيد تجربتك الإيمانية الخاصّة وعلاقتك مع الله عزّوجلّ، وماهية فهمك لقدر الله وأنّ ما يجري وإنْ تعددت الأسباب فإنّ المسبب لها هو ربّنا عزوجلّ، هذا الفهم يحتاج إلى اتساعٍ هائل ومجاهدة عظيمة، بل ومجاهدات، كلّما ضعفت نفسك لتعترض تُذكّرها بأنّه أمر الله النافذ يجريه أنّى شاء، وسيختلف هذا الفهم بين شخصٍ وآخر وهذا يعود إلى المنطق الإيماني وكيفية التعامل معه.
وأكتشف الآن أنّ الإنسان يتخفّفُ كثيراً من صلصاله في الحرب؛ أي تتجرّد من الماديّ إلى المعنويّ، وكلّما شعر الإنسان بالعجز واللجوء إلى حول الله وقوّته، شفّت روحه واتسعت مداركه وتنشقت من نسائم الملكوت ما يجعلها تفوح صدقاً وعذوبة وسكينة ورضا.
في نوفمبر الآن أكتشف أنّ مقام الصبر عظيم لا يطيقه إلا الأنبياء والأشدّ قرباً منهم، لأنّ العبد بطبيعته يميل دائماً إلى مساحة المنح والبسط والعطاء مع الله عزّوجلّ، ولكن يضعف إدراكه وتسليمه مع مساحة المحن والقبض والمنع مع الله عزّوجلّ، لذلك كان للصبر خصوصية عظيمة في القرآن الكريم لم تكن لغير الصابرين، وحتى كأنّ الله عزّوجلّ اختص البشرى مع الصابرين اختصاصاً جليّاً لهم، والاختصاص يدخل ضمن قائمة الأقل، يعني أنّ الأغلب عدم الصبر، الأقل الصبر، كما أن الأغلب عدم الشكر والأقل الشكر والأغلب عدم العلم والأقل العلم وهكذا.
وأكتشف الآن معنى قول أبو العلاء المعري:
مشيناها خطىً كُتِبَتْ علينا
ومَنْ كُتِبَتْ عليه خطىً مشاها..
لقد اختصر في هذا البيت ملايين المقالات والتجارب الوجودية، هذا طريقك المرسوم لك أيها العبد، تسيره كما يشاء الله راضياً فيرضى عنك، وإمّا أن تسيره وأنت ساخط ولا طريق لك سواه مهما سخطت فيسخط عليك، فكن مع الله في كل اختياراته لك وفي كل طرقه التي رسمها لك ليشهد قلبك على جمال عظمة قول النبي صلى الله عليه وسلم ” لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع”.
في الثالث من نوفمبر من هذا العام، اتسّعت كثيراً وأنا أرى كيف ينطوي الكون في روحي، وأنا أتعلم كيف تدميني التجربة وكيف أشعر لكل لحظة ألم بالامتنان وأنا أستشعر كيف يكون الله عزّوجلّ أقرب من حبل الوريد، فكلُّ عام وروحي جامحة تستقي نورها من القرآن وحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.