مدونات
الكاتبة: فاطمة الزهراء سحنوني
تدور رحى التاريخ بالطريقة نفسها. ونحن وقوف على أعتاب ذكرى انطلاقة أعظم ثورة في العصر الحديث، والتي تتزامن مع بداية السنة الثانية لأعظم طوفان مرَّ في العصر نفسه، يلتقط المطلع على حيثيات هذه الملاحم الفخمة آثار دورة متكررة من العوامل التي أدَّت إلى هندسة هذه الأخيرة ثم تسطيرها في سجل الأمجاد التاريخية.
مفدي زكريا شاعر الثورة الجزائرية، عندما أراد تعظيم شهر انطلاقة أحرار الجزائر قال: نوفمبر جلَّ جلالك فينا ألست الذي بثَّ فينا اليقين؟، ذلك اليقين علامة فارقة وسرٌّ دفين لا يستطيع كشف حجبه إلا ذوو أفئدة الطَّير. الأحرار الذين شروط عيشهم فوق الاهتمام بتحسين ظروف العبودية لدى أراذل سادوا بامتطاء الجهل المركب فينا، وتغذية الهزيمة النفسية التي خلفها استعمارهم لأراضينا عقودا مديدة. اليقين في اللغة هو الاعتقاد الجازم بالشيء، والعلم الثابت الذي لا شك معه. يخامر الذات فيجعلها صلبة حديدية تجاه الأمر الذي تكون متيقنة منه، ومتى توفر فيها فلا رادع لها ولا رادَّ لسعيها إلا ما كان فوق طاقتها وحدود قدرتها.
كان للجزائر نوفمبر مجيد انقشعت في الفاتح منه أنوار الحرية والنصر في زمن خيم فيه الظلام، وراهن الكل على عبثية السعي فيه وحتمية فشله. وكانت لقوى الشَّر كلمتها ووحدتها وقوتها العسكرية والتكنولوجية، وهيمنتها الثقافية والفكرية على العقول. لكن اليقين بوجوب انتزاع الحق بالقوة انتزاعا غلب، وبأنَّ الفئة القليلة تغلب مادامت شروط الغلبة الإلهية حاضرة لديها. واليوم في غزة تعاد الكرَّة بالظروف ذاتها، أكتوبر مجيد بثَّ في السابع منه يقينا عظيما بالنصر والحرية لكلِّ الأرض، لا لقطعة منها فقط. لأنَّ تلك القطعة هي القلب النابض الذي يرتب نبض كون كامل، ويعتق رقبته من قبضة الفساد، وهيمنة رؤوس الشياطين. وهو ما كان، إذ غلب يقين الثائرين، وفعلوا بأراذل البشرية الأفاعيل، وبدَّدوا نظريات وأساطير، ومعتقدات ظنوا أنها قد رسخت وثبتت وآتت أكلها وأضحت مسلَّمات لا رقابة عليها، ولا منقض لها.
لم تكن ضريبة كل هذا هينة في الحالتين، بل دفعت بالدم والدمار والأشلاء، وتجاوز ثمنها الباهظ يستغرق أعمارا كاملة وربما أجيالا. فتراب الجزائر ما يزال نديا لفرط الدماء التي سالت فيه بفعل الشقيقة الشمطاء لإسرائيل. وجماجم الشهداء لا تزال محتجزة في متاحف فرنسا، وآثار التجارب النووية التي بلغ عددها 57 تجربة في الصحراء لا تزال باقية حتى يومنا هذا. ومن يتابع تفاصيل التطريز الدموي في رداء التاريخ الجزائري ويسقطه على واقعنا اليوم في غزة سيفغر فاهه دهشة لدقَّة التطابق بين عقليات هذه الوحوش وتجردهم المطلق من الإنسانية، وشذوذهم عن الجنس البشري الطبيعي إلى مجرد مسوخ دموية تلتهم اللحم والعظم والدم ولا تشبع.
فالتطهير العرقي الممنهج، والأساليب المروعة المتنوعة المسخرة لحصد الأرواح جملة وفرادى، والحروب النفسية والتزوير المقصود للتاريخ والتدمير المباشر للآثار الشاهدة عليه، والتفنن في تعذيب الأسرى وانتزاع مقومات الحياة من أجسادهم وأرواحهم، وسرقة الأراضي ونهب الخيرات، والتبرير الفج المفضوح لأفعالهم أمام أنظار العالم، والسعي الحثيث لاجتثاث مكونات الهوية، وتصدير صورة وحشية ورجعية عن الإنسان المستعمَر، كلها أمور مورست في الجزائر ولا تزال تتكرر في فلسطين. ولعل فارقا واحدا بين الحالتين كان لصالح الشمطاء فرنسا، هو نقص الإعلام ومحدوديته في التجربة الجزائرية ما أدى إلى ترسخ أكبر لهذا السرطان فيها، عكس الزمن الحالي الذي انفتح فيه العالم كله على مصراعيه، واستطاع العالم أن يميز الخبيث من الطيب، خاصة مع قدوم الطوفان الذي جرف جزء كبيرا جدا من هذه الممارسات الخبيثة ووأدها.
هذه ليست مقارنة للألم، فالآلام لا تقارن، ولا تقاس، ولا توزن. لكنه تعدد المسمَّيات لا غير لأجيال من أم واحدة، عانوا ولا يزالون من سرطان نابع أيضا من أم واحدة وأصل واحد، تمَّ تقسيم الأولى وجعلها فتاتا بقلم رصاص مسموم على خريطة وهمية من طرف الأخيرة التي ظاهرها مقسم جغرافيا وباطنها واحد متَّحد حقود وجشع، والتاريخ شاهد على دمويتها وتشوهها الفكري والنفسي والعقائدي والوجودي ككل.
سنة الحياة تقتضي أن يكون للأعمال العظيمة والملاحم الكبيرة أثمان على قدرها وبحجمها، ولا يستتبُّ أحد هذين الأمرين دون الآخر. فمحنة غزة اليوم بقدر ما فيها من أذى إلا أنَّها كانت منحة لهذه الأمة المغيبة، كاشفة فاضحة لمواطن الضعف، ومصادر الوهن، فاعلة في من تستروا بالمواثيق وتوشحوا الشعارات والأهازيج الفارغة فعل الرِّياح العاتية بالخيم المهترئة. وهذه أمة لطالما كانت بداية نهضتها قرمزية نازفة، ونهاياتها ناصعة البياض مكللة بالعز.