سياسة
تحترف الصحافة الإسرائيلية صناعة الوهم، تغذيها وتتقمص أكاذيبها وتبني عليها. نجحت لعقود في رش السكر على الوحل بحرفية ومهارة حتى أجادت. اتخذت أصنامها هياكل وأبعاد وتاريخ لبضع سنوات حتى اتسقت أصنامها وبيعت للإعلام الغربي وكُّرست. ثم جاء السابع من أكتوبر قبل عام ونيف وإلى الآن تآكلت أصنام الوحل الإسرائيلية، لا في الصحافة العربية المتواطئة في معظمها مع السردية الصهيونية النيوليبرالية التي صكتها اتفاقات التطبيع لتلطخ وجه الدول التي كانت عربية بوحل إسرائيل المهدّم.
شهدتُ طوال مسيرتي المهنية لأكثر من خمسة وعشرين عامًا عملت خلالها في أدوار مختلفة كمقدمة ومحاورة صحفية رئيسية في هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، ومحاضِرة في الصحافة، ومراسلة، وزميلة أول، وأكاديمية في دراسات الحرب أن معايير الحرية وحقوق الإنسان والقانون الدولي التي تحطمت على صخرة ”التضليل“ بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ لم تكن مفاجئة. كان الوهم الإسرائيلي والتضليل صناعة قائمة لها حراس وأفواه وحضور ووقع. حتى جاءت حرب الإبادة. وقتذاك كانت المعايير الغربية المزدوجة التي رأيناها منذ حرب أوكرانيا هائلة. البوصلة الأخلاقية المرتبكة عززت الاستنتاج الذي توصل إليه الوعي الجمعي. تأكد لنا ما كان أكيدا وهائلا ووقحا منذ حرب أوكرانيا: قواعد وقوانين حقوق الإنسان الليبرالية التقدمية ليست للجميع.
ولكي أكتب هذا المقال من دون انفعال أو تحيز، فلابد من تطبيق ثلاثة مستويات من التحليل. فأولاً سأتناول المعضلة الأخلاقية المتمثلة في إدانة حماس، ثم تقييم التفوق الإعلامي والأهلي الذي يساند حركة حماس والمقاومة بتجرد عن أي خلاف إيديولوجي معها أو مع حزب الله في سياساته الداخلية أو في سورية. ثالثا تموضع حماس منذ بدأت الإبادة الجماعية المنهجية الإسرائيلية لاعباً رئيسياً في الوعي الإدراكي الجمعي، ثم عن تجربة مهنية عشتها ورأيت قواعدها الراسخة تنهار أما التباين الفاضح والمعايير المطاطية بين التعامل مع الغزة الروسي لأوكرانيا وجرائم الحرب الإسرائيلية بدءا من قنص الزميلة الراحلة شيرين أبو عاقلة بنية الترصد والاغتيال وفضيحة الإعلام الغربي، بل وبعد العربي في تغطية كل ذلك.
متلازمة ”هل تدين حماس؟“
منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، كان السؤال اللا أخلاقي في بداية كل مقابلة على شاشات المؤسسات الإعلامية الغربية الأكثر شهرة وصرامة وخبرة: هل تدين حماس؟! كان تكرار طرح السؤال مرارًا وتكرارًا وكأن المعلقين والأطراف في جلسة اعتراف أمرًا مروعًا. لم يعد الجمهور يفهم، ولم نفهم نحن أيضًا كصحفيين نعمل في الشرق الأوسط منذ عقود، لماذا يستمر تكرار هذا السؤال. وبقدر ما هو مريب، امتد السرد المتحيز إلى وسائل الإعلام الناطقة بالعربية والمؤسسات الإعلامية الغربية في منطقة الشرق الأوسط.
لقد تجسدت معضلة التحيز الغربي الواعي وغير الواعي جمعيا وبشكل اتخذ قواما وكأن المريب يقول خذوني منذ غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير٢٠٢٢. كانت معايير الصحافة وأخلاقياتها على المحك. سقطت القيم الليبرالية الغربية سقوطا مدويا، وعزز التحيز ضد روسيا الشعور بالاستحقاق لدى العديد من المنظمات والأفراد المؤثرين في الغرب النيوليبرالي والرأسمالي، القائم أصلا على نادٍ اقتصادي لا ينحاز اجتماعيا للطبقة الوسطى المتعلمة وأدواتها البورجوازية، بما في ذلك وسائل الإعلام. انهارت تمام! كانت المؤسسات الإعلامية الأكثر شهرة ولا تزال، متحيزة تمامًا وعلنًا ضد روسيا. فقد رأينا وسمعنا سردًا واحدًا فقط. بدا حينها أن الموقف الأخلاقي الأصوب هو دعم أوكرانيا ودعمها دون قيد أو شرط باعتبارها دولة غزتها جارتها وصاحبة مظلومية. لكن كل شيء زاد عن حده فاسد أو يكشر للفساد. استؤصلت روسيا من كل مظاهر الحضارة ”الحديثة” والعالم ”الحر الديمقراطي“؛ سواء كانت بطولة شطرنج أو مسابقة أجمل قط أو حتى الانسحاب من صفقات الغاز الكبرى مع روسيا. تحولت وسائل الإعلام الغربية،التي تماسكت لعقود وبنت سمعتها على آلاف التغطيات، آلة الدعاية والبروباجندا لجميع الأطراف بما في ذلك روسيا. صورت الصحافة ”البيضاء“ تحيزها على أنه صحافة “قوية” والرواية الصادقة معرفة لاحتكار الحقيقة.
ثم حدث شيء مهم. اغتيلت شيرين أبو عاقلة؛ المراسلة المخضرمة لقناة الجزيرة الفلسطينية في القدس في الحادي عشر من مايو٢٠٢٢. فجأة عادت حُزمة المبادئ التوجيهية الصارمة الأنيقة لوسائل الإعلام الغربية إلى العمل بشكل كامل. عادت غرف الأخبار إلى الحياد والموضوعية وتوفير القصص ذات الجانبين! لم يتم تسمية إسرائيل قاتلا ولا مغتالا، ثم وقعت كارثة واجهتها وتصديت لها بنفسي. سُمّي الهجوم الإسرائيلي على جنازتها “اشتباكات”؛ تمامًا كماجرت تسمية “المستوطنات” “منازل” وكان الفلسطينيون “يفقدون حياتهم” بينما “يُقتل” الإسرائيليون. عادت المعايير التحريرية إلى قواعدها سالمة. ولكن هذه المرة كانت مختلفة. هذه المرة لم تمر. وكانت النتائج كارثية.
مر عام آخر ثم جاء السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. كان تواطؤ وسائل الإعلام الغربية في جرائم إسرائيل فاضحا منذ قتل شيرين. هذه المرة سمعنا قبضة الاستحقاق ”الأبيض“ الثقيلة تسحق أي فرضية أو فرضية مغايرة لحق الفلسطينيين في الوجود أو العودة أو حتى البقاء حيث هم في غزة. مورس الضغط ضد أي محاولة نزيهة ومهنية لذكر نضالهم من أجل التحرير الوطني باعتبارها معادية للسامية. أحيل الصحفيون والموظفون العموميون وموظفو المؤسسات الدولية إلى التحقيق بسبب منشور هنا أو هناك على وسائل التواصل الاجتماعي “قد“ يظهر تعاطفًا مع الفلسطينيين في غزة. فُصل أساتذة من الجامعات وتركت أنا المؤسسة. خرج الأمر عن السيطرة.
تغيير الرواية
كان المواطنون في كل العالم أمام الشاشات يشاهدون إبادة جماعية قررها وسماها وحددها كبار مسؤولي الأمم المتحدة ترتكب في غزة. ركز الهم على صدورنا جميعا. شاهدنا الفارق مئة وثمانين درجة في الرواية الإعلامية عن هذه الكارثة مقارنة بأوكرانيا. مهنيا وتحريريا فإن إدانة حماس تفضي من حيث المبدأ إلى الخطأ الأولي بتجريد الحركة من اسمها الرسمي “حركة المقاومة الإسلامية حماس”، على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي يُطلق عليه اسم قوات الدفاع الإسرائيلية . عشرات السنين من الإدانة الفلسطينية للاسم ودلالاته التي – في نظرهم – متحيزة بشكل افتراضي سقطت عمدا. بعد أيام قليلة من السابع من أكتوبر، تحرر الجمهور المستهدف من الروايات الاستقطابية الراسخة التي فرضتها جماعات الضغط الصهيونية واليمينية النيوليبرالية الذكية للغاية لعقود من الزمان. تهاوت الأساطير الملتوية حول حل الدولتين ووجوب إدانة العنف من قبل جميع الفصائل الفلسطينية والعديد من ”ماذا لو” و ”فيما إذا“ مقدمة في إطارات أنيقة، بدت من حينها متهالكة ومملة، تمامًا مثل تلك الأساطير التي خلقتها وغذتها القوى الاستعمارية بذريعة فرض التدخل في شكل “حماية” أو “حراسة” مصالحها في مستعمراتها القديمة.
لقد قامت المظاهرات تؤيد الحق الفلسطينية وتجرم المحتل الإسرائيلي إلى الشوارع في نفس العواصم الغربية حيث تعمل تلك المؤسسات الإعلامية. ضغط الرأي العام العالمي الشعبي الباهر بتصحيح موقف وسائل الإعلام السائدة بالقوة. لم يمض وقت طويل حتى قامت تلك المظاهرات العفوية والحركات التقدمية الطلابية والناشطون الدوليون ومراقبو حقوق الإنسان وبالطبع حركة المقاطعة BDS وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات بتحطيم آلة الإعلام الغربية بكل استقرار وتمويلها الضخم. استعاض المشاهد والمستمع والقارئ بوسائل التواصل الاجتماعي لنشر وتوثيق كل الفظائع التي لا يمكن تصورها التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة والأراضي المحتلة في الضفة الغربية والقدس، دون أي حدود تقييدية للمعايير التحريرية أو الصحفية، وأحيانًا حتى بدون تمييز أخلاقي نظري. غمرت مقاطع الفيديو المروعة توثق جرائم الحرب إلى هواتفنا.
استجابت الشعوب إلا فيما ندر في منطقة الشرق الأوسط بشكل استباقي للدعوات الواسعة النطاق لمقاطعة إسرائيل في كل جانب ممكن. نجحت المقاطعة، بل اكتسحت المواقف المائعة والمتواطئة والمتهمة الرسمية العربية. قامت وسائل الإعلام غير التقليدية التي تمثل الصحفيين والناشطين المواطنين بتسمية وفضح المنظمات الغربية المتواطئة في الإبادة الجماعية في غزة. هز الغضب الجماهيري ليس فقط وسائل الإعلام الغربية بل وأيضاً المنظمات الدولية الأخرى حتى النخاع. وبالعودة إلى نموذج المبادئ التوجيهية، انحرفت العديد من المنظمات التي كانت تحظى بالاحترام في السابق قليلاً نحو مدونة السلوك التي كانت صارمة بشأنها قبل الحرب في أوكرانيا، ولعبت كل ألعاب الدهاء للاحتفاظ بالتميز، ولكن ذلك كان قليلاً جداً ومتأخراً جداً. ولم يعد من الممكن المطالبة بشعارات مثل الحياد والتوازن والموضوعية والصدق.
ونوثق الآن أنا وزملائي جرائم الاحتلال الإسرائيلي لنسلمها لمحامي ومدعي المحكمة الجنائية الدولية كل يوم. وأسسنا مواقع ومتتاليات ودوريات ومنصات كهذه التي تقرؤونها. نعزز الرواية الفلسطينية والعربية والحقوقية دون إغفال حق الرد حتى عن أعتى المجرمين، نجونا قبل الطوفان الفارز بمبادئنا وحرفيتنا.. والأهم بضمائرنا. فلعلنا نوفّق، ولا تسقط الحقوق بالتقادم طالما نسعى.