مدونات
الكاتبة: فاطمة الزهراء حبيدة
تظهر من حين لآخر موجات استنكار للإنتاجات الصحفية أو صناع المحتوى، ويعتبرها البعض أنها تشكل أداة لاستخفاف بذكاء المشاهد، أو بتعبير أخر تحاول “استغباءه”، وأنها تتضمن محتويات لا تعكس الواقع الحقيقي للمجتمع، ولا تعطي صورة إيجابية عنه. لكن المثير، أنه بالرغم من هذه الانتقادات الحادة، تحصل المحتويات الأكثر انتقادا على مشاهدات بالألاف، أما إن تعلق الأمر بفضائح عن الحياة الخاصة للفنانين، أو السياسيين، فالمشاهدات بالملايين، وفي هذا الصدد، لم أجد تشبيها أبلغ من العبارة التي تضمنها كتاب “أفول الغرب” لحسن أوريد بغاية وصفه لوضع الإعلام: “ثم هناك سيل من مسؤولي الاعلام المكتوب والمسموع والمشاهد يتلقفون خرجة السياسي ليستخرجوا منها جملة صغيرة أو فكرة نيرة يرددونها في وسائل اعلام أخرى ويجعلون منها كرة ثلج”، للاستدلال عن حجم تضخيم الأحداث من قبل الإعلام، وفي تشبيه لما أصبح عليه المحتوى الإعلامي اليوم. أمام اتساع مجال الصحافة وصناع المحتوى حيث أصبح الحد الفاصل بينهما رفيعا، وكل منهم يريد أن ينفرد باهتمام المشاهد وإرضاء فضوله بكافة الطرق، والمواضيع، وإن كانت هذه الأخيرة تكتسي طابع الغرابة.
أصبح الآن المحدد الأساسي لتصنيف مدى وعي المجتمع يتم من خلال نوعية المحتويات الرقمية التي تستأثر باهتمامه، فنوعية الإعلام السائد وصناع المحتوى المتصدرين، ما هو إلا ترجمة لعقلية “المتلقي” برغم من أن الرأي العام يؤمن بعكس هذه المعادلة، ويعتبر نفسه ضحية مؤامرة وضعتها أجندات خفية للإيقاع به وللنيل من ذكائه الخارق (يا للعجب)، فيغذو الأمر أشبه بما تحدث عنه جورج أوريل في روايته “1984”، أن “الأخ الأكبر يراقبكم”، في حين أن صناعة الغباء والتفاهة والخضوع لها، لا يستدعي تسخير أي مجهود، بل يكفي أن لا يستحضر المرء ضميره الأخلاقي ويرحب بالقذارة الرقمية.
فمحتوى تافه لا يتطلب الكثير، فقط حدوث توافق بين مكونين أساسين: “المنتج” و”المستهلك”، لكن ما يجب إدراكه هو أن ثقل هذا المنتوج يقع على عاتق “المستهلك” بالدرجة الأولى، فهو المتحكم الرئيسي فيما يبث سواء على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائط الأخرى، فالمشاهد هو من يصنع من “العدم” “شيئا”، ومن “النكرة” “معرفا”، ومن “التافه” “شخصا عاما”.
عندما يتكلم المال تصمت الأخلاق يعد الربح الهاجس أول للخضوع لطلبات المشاهد، وهي في الغالب غريبة ومثيرة للجدل، بهدف استقطاب أكبر عدد من المشاهدات، وتحقيق أكبر مدخول، وهذا الأمر عرى الجانب المادي المتوحش لدى “المنتجين”، ولو اقتضى ذلك عرض محتوى مخل أو لا-إنساني، إذ أضحت الكرامة والحياة الخاصة للأسر والأفراد مفهوما فارغا ودون معنى، وأصبح المشاهد من خلال ضغطة زر عبر “خاصية اللايف أو الستوري” أكثر دراية بلون أرضية المرحاض، وأفرشة غرف النوم، أما استعراض الأجساد فلعلك ترضى، بكل الاشكال والأنواع.
وما يدق نقوس الخطر، أن صناعة التفاهة لم تستبح فقط الأجساد، بل القيم كذلك، فلم تعد للحظات الخاصة حرمتها: لحظات الحزن، الموت، المشاكل الزوجية، إذ غذت تعرض كبضاعة رخيصة الثمن، ومن “يكبس” أكثر، يكون نصيبه من أوفر من الفظاعة واللا-أخلاق، فقد أصبحت تجارة الأجساد والحياة الخاصة، على وسائل التواصل الاجتماعي، مربحة وبدون تكلفة عالية.
وما يثير الاستغراب هي نسبة قبول هذه المحتويات، التي كانت تشكل في السابق ضربا للقيم، أما الان يتم التعامل معها على أنها أمر مباح، ومرغوب فيه، والأكثر من هذا، أن التفاهة أصبحت مبررة وتبدو إلى حد ما مقبولة داخل المجتمع. صحافة تابلويد كانت في السابق عبارة “الصحافة الصفراء” توحي بذلك المنتوج الصحفي البخس من حيث قيمة الأخبار ونوعيتها، والتي تركز على أخبار “الفضيحة”، فبعد أن تراجعت نسبتها في فترات زمنية محددة، عادت من جديد لأوج عطائها مع الصحافة الالكترونية، التي تستلزم عنصر السرعة والسبق الصحفي، بالخصوص في مواجهة “المواطن الصحفي”، وكذلك في ظل تراجع الإقبال على الصحف الورقية، وبالتالي أضحت “تجارة التفاهة”، تجارة مربحة ومريحة، فهي لا تتطلب جهدا كبيرا للتقصي والتأكد من مصداقية الخبر، بل الغاية فقط خلق الجدل وإضفاء الطابع الدرامي على الأحداث بغاية استقطاب أكبر عدد من المتفاعلين مع الحدث، بغض النظر عن مدى صدقيته.
أما أخلاقيات مهنة الصحافة التي يُفترض أنها ترسم حدودا معينة لا يجب تجاوزها، أصبحت مجرد “حائط قصير” كما يقال بالعامية، وبالتالي استحضار الضمير المهني مستبعد لدى بعض المنابر الصحفية، أمام الرغبة في استقطاب أكبر عدد من المشاهدات، وقد شكلت “قضية الطفل ريان بالمغرب” مثالا عن هذا النوع من هذه التجاوزات، إذ نشرت له صور وهو في وضعية إنسانية صعبة، والأمر الذي استنكره المجلس الوطني للصحافة، وقس على ذلك مجموعة من التجاوزات الأخرى، بحسب القضايا التي ينجرف إليها الرأي العام.
لذا فتشكل الصحافة اليوم مرآة للواقع، والمحتوى الذي تعرضه، تعكس من خلاله رؤية المجتمع وتوجهاته، حيث يطغى عليه الجانب الدرامي وإثارة الجدل، انطلاقا من أحداث تافهة، لكن مبررها دائما أنها تلبي رغبة المشاهد، كونها تستهدف الربح بالدرجة الأولى، والربح يقتضي تسليط الضوء على اهتمامات الجمهور وما هو متعطش لرؤيته، وإن كان ذلك يخالف أخلاقيات المهنة.
استهلاك التفاهة
ضريبة مؤجلة ومضاعفة التعاطي للتفاهة ليست وليدة اللحظة، فقد كانت دائما “التفاهة” مثيرة للفضول لدى العامة، لكن بنسب متفاوتة، وغير منتشرة بالشكل الذي هي عليه اليوم، فبالنظر إلى حجم التعاطي مع هذا النوع من الانتاجات، أصبح الإقبال عليها مسألة عادية ومقبولة، أمام جيل جديد، يرى أنه لا مجال للاغتناء السريع إلا أمام منصات التيك توك، أما عتبات المكتبات والجامعات فلا تسمن ولا تغني من جوع بالنسبة لهم، فلم تعد تستهويهم مدرجات الجامعات ولم تعد الكتب المتراصة على رفوف المكتبات منظرا مغريا بالنسبة لهم، ليس لأنهم أميين بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه، بل هو نوع جديد من الأمية، يصطلح عليه ب “الأميين الجدد”، هذا الوصف أطلقه “الآن دونوا” في كتابه المعنون بنظام التفاهة في حديثه عن التفاهة، وعبر عن ذلك ب: “يمكنك وصف أميتهم بالهجينة والمزيّفة، فهي نتاج التعليم الحديث، وبشكل عفويّ هم تجسيدٌ لخطاياه. هؤلاء هم الذين يعرفون كيف يقرأون، لكنهم على الرغم من نواياهم وما يطمحون إليه؛ يظلّون أميّين، وأنا أسمّيهم “الأميّين الجدد”.
ولا غرو، أن تنامي نسبة “الأميين الجدد” له ضريبته، لكنها باهظة، فالتسابق نحو الشهرة، والسعي لتصدر قائمة المشاهدات في منصات اليوتيوب وغيرها، يتطلب إرضاء جشع المشاهد وفضوله بالخصوص فيما يعرف ب لايف تشالنجLIVE CHALLENGE، إذ يتحدى المشاهد صانع المحتوى بالقيام بحركات بهلوانية أو إيحاءات جنسية، أو أفعالا سادية، وما عليه إلا ينفذ في سبيل أن يحقق نسب عالية من المشاهدات، لإرضاء متابعيه الذي أصبح رهينة لهم.
هذا الحال الذي أصبحت عليه مواقع التواصل الاجتماعي، مؤشر مخيف لانهيار منظومة القيم لدى المجتمع، وتدني مستواها، الذي تتعدد أسبابها، لكن النتيجة واحدة، وهي اندثار القيم والأخلاق الإنسانية، الأمر الذي ستكون آثاره وخيمة على الأجيال القادمة، كوجود هوة فكرية وثقافية بين فئات المجتمع، فئة مثقفة متعلمة وواعية بأدوارها اتجاه المجتمع، وفئة أخرى تعيش في العالم الافتراضي وتقتات منه.