سياسة
أستشرف مقالي هذا بالاعتذار عن التقصير، نعم، جميعنا مقصرون. فمهما كان ما نبذل ثمنا لمبادئنا لن يساوي حبة خردل في بسالة المقاومين ضد إسرائيل. هي عقيدة واحدة نشاركهم إياها، جلاء المحتل والتحرر الوطني، هم يستميتون في تحرير وطنهم ونحن كذلك. هم تحت وطأة توحش ولا أخلاقية المحتل، ونحن نجابه السلطة القمعية، هم يستشهدون دون أرضهم ونحن نسبر غوار التغيير بكل أشكال المقاومة الشرعية.
لا أتذكر متى بالضبط اعتنقت قضية فلسطين وتحريرها، لكنها بالتأكيد كانت في طفولتي المبكرة. فوالدي قاتل ضد إسرائيل في حروبنا معها. تشرّبت القضية على صفحات الجرائد والراديو وتلاهم التلفزيون. اتخذ شعوري بالواجب تجاه قضية تحرير فلسطين مراحل وأنماطا مغايرة منذ احترفت الصحافة، فقد كنت مأخوذا بالكتابة والقراءة عن المقاومة والشعوب الساعية إلى التحرر الوطني. استذكرت فيها الكثير وتعلمت منها أكثر. ترشحت عن دائرتي للبرلمان وفي عقلي آلاف الكلمات مما تسلحت به لأمثل مصالح من اختاروني وأخوض المعارك الضارية من أجل هذا الوطن. ثم كانت فاجعة تيران وصنافير. كانت كلمة واحدة إما مقاومة وإما انبطاح. صفيت مع زملائي في تكتل ٢٥-٣٠ صف مصر وعار تسليم أرضها في أكثر مواقعنا الاستراتيجية حساسية. وعلى الرغم من الحكم التاريخي بأن مصرية الجزيرتين ”مقطوع بها“، إلا أن المعركة كانت في المجلس. وقد خضناها، بعقيدة وحيدة، عقيدة المقاومة.
بعد عظمة المقاومة في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ أعلنت موقفا واضحا بالاصطفاف خلف حق الشعب الفلسطيني وكل شعب في التحرر الوطني. حاولت ضمن زملاء من الصحفيين والسياسيين أكثر من مرة الوصول إخواننا على الجهة الأخرى من معبر رفح لكن وصولي أنا تحديدا وبعض ممن حولي كان ضربا من المستحيل. انكفأت على دوري كمواطن مصري يرى في نفسه ويرى الكثير من المصريين الممنوعين من مباشرة حقوقهم السياسية إبان حملة انتخابات الرئاسة رئيسا محتملا أن لديه من الإمكانيات والمهارات ما يمكنه من كبديل رئاسي مرجو طرح رؤية وحل حقيقي لعشرات السنين من الثأر والعداء مع الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل.
مبدئيا كان الالتزام بالمقاطعة كسلاح مدني ناجع ضد المنتجات الصهيوني فرض عين لا فرض كفاية. لا يمكن قبول أن أبسط أشكال التضامن والدعم، فما بالك النصرة، شيءٌ يقصر فيه مواطن واع ومسؤول. حرصت خلال محاكمتي أن أشارك في الفعاليات التي بالفعل تعزز صمود المقاومة وتعضدها، واستغلال كل الأدوات الحزبية والنقابية أو حتى الجماهيرية طالما كنت حرا ولم يثبت حكم السجن علي بعد. كان آخرها حتى كتابة هذا المقال حضوري وزملائي وزميلاتي في حزب تيار الأمل على سلم نقابة الصحفيين وهي تظاهرة سلمية كان لها أثر بالغ في كسر الصمت المطبق الذي وضعته هذه السلطة على رؤوس المصريين، الذين يفوق تاريخ دعمهم للشعب الفلسطيني عمر الاحتلال الصهيوني بعقود طويلة.
كانت الفكرة الإفطار كل ثلاثاء على سلم النقابة بالخبز الحاف والماء، حضرنا أولى هذه الوقفات أنا وأسرتي وزملائي وكان العدد ضئيلا من الحضور، إذ لم يكن أحد ليتخيل أنا تلهب القضية الفلسطينية حماستنا وأن يكون لها الفضل كما كان الحال دائما في فرز المواقف المبدئية من عقيدة المقاومة. آخر الوقفات التي حضرناها كانت في رمضان بهيجة وكثيفة الحضور. استزدنا بقوة الوقوف من كل التيارات السياسية ومدارس التفكير ومناهجه الحزبية والشعبية والنقابية صفوفا متتالية وفي يدنا الخبز الحاف. رج هتاف ”من القاهرة ألف تحية.. يا مقاومة يا فلسطينية“ الأرض من تحت أقدامنا يؤكد بثبات وحماسة حقيقية أننا موجودون، وبخير، وأصحاب موقف، ويمكننا القيادة والاشتراك والتزامل، وأن كل فلسفاتنا السياسية تتوحد على باب فلسطين.
كفعل سياسي أشمل، كان واجبا – وقد فعلنا – أن نشترك مع كثيرين في تقديم طلبات متكررة للسماح لنا بمرافقة قوافل الإغاثة عند معبر رفح، كجزء من ممارسة الدولة المصرية واجبها بالسيادة المصرية الفلسطينية الكاملة على المعبر، وهذ نقطة الالتقاء الوحيدة بين مصر وفلسطين التي تمكن الفلسطينيين من الغوث والتواصل مع العالم الخارجي برا وبحرا وجوا. وفضت طبعا هذه الطلبات، صحيح أنه لم يكن باليد لكنه كان أقل القليل من الواجب إزاء إبادة إخواننا.
واجبنا تجاه أنفسنا وتجاه أشقائنا في فلسطين عن حق، هو أن نعمل مسترشدين بعقيدة المقاومة لبناء نظام سياسي حقيقي وبديل، تكون قراراته وانحيازاته استجابة للمصالح العليا للدولة المصرية والضمير والوجدان الشعب المصري المرتبط عضويا على مدار التاريخ بقضية فلسطين ومظلمتها، فما بالكم بإبادتها!