مدونات

إبرة كليوباترا.. حكاية المسلة المصرية التي تسببت في عزل الخديوي إسماعيل

أكتوبر 28, 2024

إبرة كليوباترا.. حكاية المسلة المصرية التي تسببت في عزل الخديوي إسماعيل

الكاتب: معاوية الذهبي


عندما تولى الخديوي إسماعيل حكم مصر عام ١٨٦٣م بعد وفاة عمه سعيد كان هدفه الرئيسي هو الاستقلال بحكم مصر عن الدولة العثمانية، وفي سبيل ذلك سعى إلى تطوير الجيش المصري ورفع قدراته، لذلك قرر شراء أحدث الأسلحة والمعدات لجنوده، كما استعان بعدد من المستشارين العسكريين لتدريب الجنود.


في تلك الفترة كانت مصر مدينة لعدد من الدول الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا، مما جعل إسماعيل لا يثق في تلك الدول التي تطمع في احتلال مصر والسيطرة عليها حسب رأيه، هنا قرر إسماعيل الاستعانة مستشارين عسكريين من الولايات المتحدة، حيث استعان بثمان وأربعين ضابطًا أمريكا من الذين شاركوا في الحرب الأهلية الأمريكية واعتمد عليهم في تطوير قدرات الجيش المصري وتأسيس مدارس عسكرية لتنمية قدرات الضباط المصريين.


ليس هذا وحسب فعندما أرسل الخديوي إسماعيل حملات عسكرية للسيطرة على الأراضي الواقعة إلى الجنوب من السودان عين على رأس تلك الحملات اثنان من الضباط الأمريكيين هما رولي كولستن وإيراستوس بيردي. تزامن من ذلك بزوغ نجم الولايات المتحدة التي أصبحت قوة اقتصادية وعسكرية لا تقل أهمية عن الكثير من دول أوروبا، خاصة بعد نهاية الحرب الأهلية، رغم هذا ظلت القوى الأوروبية الكبرى، وتحديدا بريطانيا وفرنسا، تتدخل في شؤون مصر الداخلية، وذلك بسبب الديون الثقيلة التي اقترضتها مصر من تلك الدول، لدرجة أن مصر كانت تهدي تلك الدول قطع أثرية قيمة.


بمجرد أن علم رجل الأعمال الأمريكي الشهير وليام فاندربيليت أن باريس ولندن وروما قد حصلوا على مسلات مصرية قديمة، طلب من وزارة الخارجية الأمريكية أن تساعده في الحصول مسلة مماثلة لموطنه بمدينة نيويورك، وبالفعل وافقت الوزارة على طلبه وأرسلت إلى قنصلها بمدينة الإسكندرية إلبرت إيلي فارمان تطلب منه أن يتحدث في تلك المسألة مع الخديوي إسماعيل.


وعندما التقى فارمان الخديوي إسماعيل قال له: “اقترب عدد سكان الولايات المتحدة من خمسين مليونا، وعما قريب سيتضاعف هذا الرقم، والكثير من هؤلاء سيزورون نيويورك يوما ما، وإذا تمت إقامة مسلة هناك فسيتلقون معلومة عن تاريخها القديم ويعرفون أنها كانت هدية من جلالتكم إلى شعب الولايات المتحدة”، كان تفكير القنصل الأمريكي والولايات المتحدة يرتكز حول مسلتين، الأولى في الأقصر والثانية في معبد الكرنك. كان الخديوي إسماعيل يشعر بالامتنان للولايات المتحدة، خاصة الضباط والمعلمين الذين اشتركوا في الدفاع عن مصر، من جهة أخرى كان يريد أن يقلل من مكانة القوي الأوروبية التي كان مدينا لها بأموال طائلة، وذلك من خلال توطيد علاقته بالولايات المتحدة ورفع مكانتها، كل تلك الأسباب دفعت الخديوي إلى الموافقة الفورية على طلب القنصل الأمريكي، ليس هذا وحسب فقد عرض الخديوي إسماعيل على الولايات المتحدة مسلة أكثر إبهارا من المسلمين المذكورتين.


 أشار الخديوي إسماعيل إلى مسلة كانت تزين معبد القيصر بالإسكندرية ويبلغ عمرها ثلاثة آلاف عاما مصنوعة من الجرانيت، وذكر أنه يمكن للولايات المتحدة الحصول على تلك المسلة مجانا باعتبارها تذكار للصداقة بين حكومتي الولايات المتحدة والخديوي. بدا عرض إسماعيل إلى أمريكا مبهرًا للغاية، حيث ذكر القنصل فارمان أن إبرة كليوباترا كانت بالفعل ذات جودة وقيمة أعلى من المسلتين الممنوحتين لبريطانيا وفرنسا، وأن نقل تلك المسلة إلى نيويورك سيكون حدثا تاريخيًا محفورًا في الأذهان، وقال الرئيس الأمريكي آنذاك أمام الكونغرس الأمريكي أن تلك الهدية تمثل علامة واضحة على التقدير الدولي للأمة الأمريكية بأسرها.


على الجانب الآخر تسبب هذا الحدث في غضب القوى الأوروبية صاحبة النفوذ الكبير في مصر آنذاك، حيث كانت البلاد مدينة لتلك القوى بمبالغ طائلة تصل إلى مائة مليون دولار، ومن أبرز ردود الفعل كان الادعاء الإيطالي بأن الأرض التي تحمل المسلة مملوكة للحكومة الإيطالية وأن حكومة مصر لا يحق لها نقل المسلة، أما فرنسا وبريطانيا فقد أصرت كل منهما على أن جميع الممتلكات المصرية بما فيها الآثار مملوكة لهما باعتبارها ضمانا لديون مصر.


 جاء الرد الأمريكي على تلك المزاعم من القنصل الأمريكي فارمان الذي اعترض قائلا بأنه ليس من حق الأوروبيين الذين تزخر عواصمهم بكنوز مصرية قديمة أن يعترضوا على نقل قطعة مصرية إلى الولايات المتحدة. مع هذا ظل الخديوي إسماعيل ثابتًا على موقفه لكن النفوذ الأوروبي في مصر كان شديدا للغاية، ونتج عن ذلك تلقي الخديوي إسماعيل خطابا بالعزل من السلطان العثماني بعد ضغط القوى الأوروبية، حيث تم إبعاده عن العرش ليحل محله ابنه توفيق الذي كان مواليا وخاضعا للسياسات البريطانية الفرنسية.


 ورغم تغاضي توفيق عن مشروع نقل المسلة المصرية إلى الولايات المتحدة إلا أن فاندربيليت لم يخضع للإجراءات الأوروبية، حيث أرسل ضابطًا بحريًا سابقا يدعى هنري جورنج إلى الإسكندرية، مع توجيهات صريحة برفض كل محاولات التدخل والحصول على المسلة فورًا. وصل جورنج إلى مصر في أكتوبر ١٨٧٩م، وخلال التسعة أشهر التالية عمل على نقل المسلة وقاعدتها التي تزن خمسين طنًا، استعان بمئة من العمال المصريين ورافعة سبق استخدامها في بناء جسر بروكلين الشهير.


 جرفت ١٧٣٠ ياردة مكعبة من الأرض حول قاعدة المسلة، أعقب ذلك سحب المسلة التي يبلغ طولها سبعين قدمًا إلى سفينة بخارية مصرية، حيث وُضعت داخل هيكل السفينة المحور بشكل خاص لاستيعاب تلك المسلة، وقد بلغت تكلفة تلك العملية حوالي مئة ألف دولار تكفل بها فاندربيليت، وفي يوليو ١٨٨٠م كانت المسلة جاهزة للسفر، وبالفعل تم نقلها إلى الولايات المتحدة.القصة وردت في كتاب “القوة والإيمان والخيال.. أمريكا في الشرق الأوسط منذ ١٧٧٦م حتى اليوم” لمايكل بي أورين.


شارك

مقالات ذات صلة