آراء
وسط غبار المعركة المكثف، وسيول الدماء التي لم تجف، وذاك المقاوم الذي ما زال يحمل القذيفة والراجمة فوق كتفه، والعرق يتفصد من جسمه المتعب، وأصوات صليّات الرصاص بين الصولات والجولات لم تهدأ، ومآتم الأهل والأحباب ومواكب الرفاق دون وداع ما زالت قائمة منذ أربعمئة يوم، والنفق الذي كان يضيق بالمقاتلين صار أضيق، والصدر أصبح حرجا، والنفَس يلتقط أصعب، ودماء أهل غزة تفيض مختلطةً بأمواج الطوفان الهادرة، والعدو يأتيهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وتزيغ الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظنون بالله الظنون، ويبتلون ويزلزلون زلزالا شديدا.. بين ذلكم كله، يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض قولهم، ويدلون بدلوهم، ولا يبدون أي احترام ولا قدسية ولا شرف لسياق المعركة، وشدة الحرب الضروس، ووقع القتال، وشراسة السجال.
بل على العكس من ذلك، يظهر المرجفون في المدينة بموسم ندرت فيها الشهامة والكرامة والنخوة والعزة، ويكأن أهل غزة كان ينقصهم عدو آخر، من “مثقفي” الأمة ونخبتها المترهلة، الذين لا يقاتلون بسلاح أو بكلمة، ولا يدعون المقاتلين يركزون بمعركتهم دون رد على الشبهات، وصد للفتن، وتوضيح الواضحات، وتوكيد المسلّمات، وكأن أهل غزة ينقصهم وسط تلك الزلازل من يهزّ بهم الأرض من ناحية أخرى، ويتسلل إلى عقولهم المنهكة ليرجّها، ليقول لهم “ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا”، وليقولوا “لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا”، وليقولوا ويقولوا ولا شيء غير القول يجيدونه، فلا هم يسكتون سكوت الخانعين، ولا يتكلمون كلام المثبتين، ولا يفعلون فعل المقاتلين، وإنما يأتون ما أتى به المرجفون الأوائل، الجبناء الأسافل، المتفيهقون الأراذل، فيخلطون الحابل بالنابل، والضواحل بالنوازل، ويمزجون على أهل غزة المنطق والعاطفة، ليحيّدوا الإيمان من المسألة، وكأن الذين قرروا الطوفان لم تكن يد الله فوق أيديهم، وكأنه كان قرار المغامر الذي لا يؤمن مثلهم بالبراجماتية، ولم يقرأ مثل ما قرؤوا من الكتب.
والحقيقة أن الذين قرروا الطوفان لم يكونوا “دراويش” كبعض نخب هذه الأمة التي اشتد عليها السقم وفتكت بها الأمراض العضال، كما لم يكونوا “براجماتيين” كبعض نخب هذه الأمة المتثوقفين “المسقّفين”، أي الذين تحدهم السقف المرسومة لهم، ولا يرفعون رؤوسهم فوق الخطوط الحمراء التي تخطها الكتب والخطط وما يقرره الأعداء، الذين عزلتهم جلسات المكتبات صاحبة الأرفف المتربة عن الواقع الذي ينبغي صنعه، لا الواقع الذي يريدون الركون إليه، فاستسلموا للأمر الواقع، ورأوا غزة متهورةً حين أرادت صنع واقعها بنفسها، فلماذا علينا نحن أن نقبل بالواقع الذي يقررونه، بدلا من تقرير الواقع الذي نفرضه عليهم؟
ننتظر قليلا؟ لم يكن الوقت وقته؟ فمتى يكون؟ ومنذ متى كانت الفتوحات لها وقت معلوم؟ ومنذ متى ولمعارك التحرير أذان وإقامة؟ ومنذ متى وللشرف مواسم يحصد فيها؟ ومنذ متى ومصاير الأمم يحددها الجالسون فوق الأرفف وبين الصفحات؟ ثم من قال لهؤلاء المرجفين إن أهل الطوفان ليسوا بقراء للتاريخ؟ بل إنهم فعلوا ما فعلوا لأنهم أحسن من قرأ التاريخ، فصنعه، بينما يكتفي البعض بقراءة التاريخ وتكراره، وهو في موقع المفعول به لا الفاعل، ولا يحرك في قوام الدنيا شيئًا، وإنما يكون ضمن طبقاتها التي تتحرك يمنةً ويسرة، مثله كأي جماد، لا يحس به، وإنما هو عرَض لا يفيد وجوده، ولا يضر غيابه، بينما أهل غزة، وأهل الطوفان، وأصحاب الهمم العظام، لا يحسون بحياتهم إلا إذا ماتوا وهم يغيّرون شيئًا، وهم يكتبون أقدارا بإذن ربهم، تبدّل وضع الخليقة ربما، وتغير مسار الخرائط، وتزيل حدودا، وترفع حدودا، من التراب، والعقل، والذاكرة.
ثم ماذا قدم هؤلاء المنظِّرون من أول الطوفان؟ لا، بل من أول حياتهم؟ كل الذي قدموه لا يعدو الكلمات المتراصة المنمقة، ولا عز لكلمة، ولا شرف لحرف، ولا قيمة لكتاب، إلا إذا كان في سياق صناعة المجد، ولو كان مجرد صفحة فارغة، فإنه أكرم وأثمن بكثير من مليون صفحة تؤسس لنظرية الهزيمة، وتثبّط العزائم، وتفعل فعل المنافقين في عز الغزوات، فلا ينالون شرف المشاركة فيها ولو بهجاء العدو وثناء المجاهد، بل يبلغ بهم السخط من الله -ولا نتألى عليه عز وجل وإنما نستدل بأحكامه وحكمه- أن ينحّيهم عن مواكب النصرة في الحدث الجلل.
والقول الأخير لهؤلاء، أنهم ما داموا يحسنون القراءة إلى تلك الدرجة، وقراءة الغيب الذي يقول إنه “ماذا لو لم يفعلوا كذا زو فعلوا كذا؟”، وما داموا يدّعون الغيرة على دماء غزة أكثر من أبنائها الذين يدفعون دماءهم أصلا في سبيلها- فليذهبوا ويفتحوا كتاب الله، ويقرؤوا الأحزاب، فينظروا ماذا يقول الله عن المنافقين، وكيف يصف فعلهم، وحينها سيخيل إليهم المصحف مرآة كبرى، تعكس وجوههم وفعالهم، وحينها، يمكنهم أن ينظّروا كيف شاؤوا لكن على بينةٍ يعرفون فيها في أي صف من التاريخ هم، وبأي ميدان بين الحق والباطل، وسعة الأنفاق، وضحالة الآفاق.
أما مجاهدو هذه الأمة، وأسيادها، ورجالها القمم الكبار، فلا يضيرهم ارتطام الزبَد في جسد الصخور وسط المياه، أو على الشاطئ، فإنه لا يغير من واقع البحر ولا الشط ولا الخليقة شيئًا، وإنما يأخذ موضعه من حيث “اللاموضع” في حياة الأمم، يأتون ويزولون دون تمييز وجودهم، أما الطوفان، فهو الطوفان، لا سواه.