سياسة
يفقد جنود الاحتلال طاقتهم بعد عام على المعركة اتسعت فيها الجبهات٬ قد ينتشون قليلاً ببعض “الإنجازات” بالتلذذ في قتل المدنيين هنا أو نسف المنازل والمدارس والمستشفيات هناك٬ لكن سرعان ما تغيب آثار هذا الانتشاء المريض الشيطاني في قتل المستضعفين العزل وسحق منازلهم ومساجدهم٬ ليعود الجندي الإسرائيلي إلى الواقع المرعب٬ حيث كوابيس المعركة الأشد ظلمة٬ ووحلها العميق الذي زجّهم نتنياهو به٬ ولا نهاية له.
منذ بداية الحرب٬ ربما لا يكاد يمر أسبوع دون أن تسمع نبأ حول انتحار مجندين أو ضباط عادوا من المعارك في غزة٬ أو آخرين تم استدعاؤهم للقتال مجدداً وحاولوا الانتحار أو إيذاء أنفسهم كي لا يعودوا لغزة٬ آخر هؤلاء هو “إليران مزراحي” أحد جنود الاحتياط في لواء المظليين في جيش الاحتلال، البالغ من العمر 40 عاماً، والذي تقول عائلته إنه قام بالانتحار بسلاحه الشخصي بسبب تعرضه لـ”اضطراب ما بعد الصدمة” بعد عودته من القتال في غزة.
أُرسل مزراحي -الأب لأربعة أولاد- إلى غزة قبل عدة أشهر٬ لكنه عاد شخصاً مختلفاً يعيش حالة من الاكتئاب والصدمة بسبب ما شهده هو وزملاءه في الحرب بغزة٬ وقبيل استدعائه للمعركة مجدداً٬ فضل إنهاء حياته على أن يعيش يوماً واحداً من الحرب٬ حيث تقول والدته جيني مزراحي لشبكة “سي إن إن” الأمريكية: “لقد خرج ابني من غزة، لكن غزة لم تخرج منه”!
يقول الجيش الإسرائيلي إنه خلال عام من الحرب تم تسجيل آلاف الحالات بين الجنود الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة أو أمراض عقلية ناجمة عن الصدمات أثناء القتال في غزة، ومن غير الواضح عدد الأشخاص الذين انتحروا، حيث لم يقدم جيش الدفاع رقماً رسمياً واضحاً. لكن تقول صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، أن 10 جنود وضباط على الأقل أنهوا حياتهم خلال أول 6 أشهر من المعركة٬ وفقاً للبيانات العسكرية التي حصلت عليها الصحيفة. وتضيف أن أكثر من ثلث الجنود الذين تم سحبهم من القتال٬ اُكتشف أن لديهم مشكلات صحية عقلية.
وفي بيان صدر في أغسطس/آب 2024، وأفادت “شعبة إعادة التأهيل” بوزارة الحرب الإسرائيلية، بأن أكثر من 1000 جندي جريح جديد يتم سحبهم من القتال كل شهر للعلاج، يشكو 35 % منهم من صحتهم العقلية، مع تطور ردود أفعال 27% إلى “اضطراب ما بعد الصدمة”، وأضافت “هآرتس” أنه بحلول نهاية العام الجاري، من المحتمل أن يتم إدخال 14.000 مقاتل جريح للعلاج، ومن المتوقع أن يواجه نحو 40 % منهم مشكلات صحية عقلية.
هذا ما فعلته غزة وحدها بجيش نتنياهو المهزوز خلال عام من الحرب٬ ولا شك أن جبهة لبنان ستُضاعف جميع الأرقام السابق ذكرها٬ وستزيد من وهن جيش الاحتلال الذي يعرف جيداً “قتال الأشباح” في حرب تموز 2006 كما روى جنوده في مقابلات صحفية٬ ولا زال جيش الاحتلال يذكر جيداً مجازر دبابات الميركافا٬ حيث تحولت المدرعات الفولاذية التي ظن أصحابها أنها منيعة وآمنة٬ إلى توابيت متحركة أو مقلوبة على ظهرها.
يمتد استنزاف الاحتلال يومياً بعشرات القتلى والجرحى من شمال غزة إلى جنوب لبنان٬ حيث أصبح تسجيل من 5-10 قتلى يومياً -بحسب ما هو معترف به فقط- أمر شائع وبشكل غير مسبوق لدى الإسرائيليين٬ إذ يعترف جيش الاحتلال بصدمته من مستوى القتال العنيف الذي يواجهه مع مقاتلي حزب الله على الأرض٬ برغم الضربات الجسيمة التي تعرض لها الحزب خلال الفترة الأخيرة٬ وهذا يؤدي بدوره إلى انهيار إرادة القتال لدى الإسرائيليين، على الرغم من الدمار الممنهج الذي يجري في غزة وجنوب لبنان.
يصف الكتاب الإسرائيليون معنويات جنود الجيش بالمنخفضة٬ حيث يترنح الجندي بين الروح العسكرية المنكسرة والرغبة في الفرار من المعركة التي قد تسوق له الموت في لحظة٬ ومع تزايد عدم الرغبة في العودة للخدمة لدى العديد من الجنود في غزة وجنوب لبنان٬ تواجه “إسرائيل” انهياراً وشيكاً لقوات الاحتياط على وجه الخصوص٬ حيث ينتشر الإحباط والقلق بين الجنود، مما يؤدي إلى فقدان الجهوزية القتالية، وانخفاض الروح المعنوية والشعور العميق بالخوف واليأس مع عدم وجود ضوء في نهاية النفق الذي أدخل نتنياهو شعبه به.
على الرغم من تفوق المعدات والتدريب المكثف٬ والطيران الذي يحميهم من السماء ولا يتوقف استطلاعاً وقوة نارية، يجد جنود الاحتلال أنفسهم يتحولون لأهداف سهلة للمقاومين الذين يقتالونهم بأقل الممكن والمتاح من السلاح٬ مع العلم -وبحسب بيانات جيش الاحتلال اليومية- أن معظم الجنود الذين قتلوا في غزة قتلوا داخل دباباتهم٬ فيما تحولت حياتهم داخل الدبابات إلى جحيم لا يطاق٬ إذ تتضمن الأوامر التي يتلقونها من قيادتهم البقاء داخل الدبابات طوال الوقت، وربما يجب ألا ينظروا حتى من أبراج الدبابات خشية من تعرضهم للقنص من قبل المقاومة٬ وبالطبع لا يجب تسأل حتى عن كيفية ذهابهم إلى الحمام كلما دعتهم لحاجة لذلك.
يقول الكاتب في صحيفة هآرتس سامي بيرتز٬ في مقال نشره مؤخراً٬ إنه “في ظل حكومة نتنياهو٬ لم يكن الجندي الإسرائيلي في وضع أسوأ من هذا الحال قط٬ حيث تم تمديد الخدمة الإلزامية لأربعة أشهر أخرى، وتمت مضاعفة مدة الخدمة الاحتياطية ثلاث مرات خلال الحرب، وتم رفع سن التقاعد من الاحتياط. بالإضافة إلى ذلك، فإن أي جندي سيتم اختطافه في قطاع غزة٬ سيكون آخر شخص يتم إطلاق سراحه في أي صفقة تبادل، إذا تم التوصل إلى صفقة بالأساس”.
يضيف بيرتز: “إلى متى سيظل الإسرائيليون يوافقون على الخدمة العسكرية في ظل حرب لا نهاية لها، ودون أن يخدم زملاؤهم المتدينين إلى جانبهم، وعندما يقعون في أيدي العدو أسرى، فإن فرص عودتهم ضئيلة بسبب نتنياهو”.
ويقتبس الكاتب الإسرائيلي عبارة من رسالة كتبها 130 جندي أعلنوا فيها عصيانهم عن الخدمة إذا لم تبرم حكومة نتنياهو صفقة لتبادل الأسرى مع “حماس”٬ إذ يقول أحدهم: “هذه ليست دولة سأضحي بحياتي من أجلها”.
يتساءل بيرتز: “ما هي النتيجة التي يفترض أن يتوصل إليها الجنود مع تصرفات حكومة نتنياهو؟ الحكومة لا تهتم بهم! فهي تنظر إليهم كأشخاص يجب عليهم القيام بكل ما يُطلب منهم: المخاطرة بحياتهم وسبل عيشهم وأسرتهم، حتى لو كانت الحكومة والشخص الذي يقودها غير راغبين في تحمل أي مخاطرة من شأنها أن تعرض سلطتهم للخطر”.
خلاصة القول٬ وبعيداً عن البروباغندا الإعلامية التي يروج لها الاحتلال٬ أن عدونا يذوق الأمرين وعلى جبهتين٬ وأن طول أمد المعركة تستنفد طاقة الجندي الإسرائيلي كل يوم وتجعله يتمنى الموت على العودة لساحة القتال. يحاول المحتل المكابرة على جراحه وآلامه والتغطية عليها بالاستقواء على المدنيين العزل٬ لكنه هش وضعيف ومريض ويتألم من الداخل٬ وإن كنا نحن نواجه آلامنا كل يوم٬ فليست آلامنا وآلامهم سواء٬ وصدق الله في كتابه العزيز: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).