أدب
أنصار المتنبي -وأنا منهم-، كلما سمعوا انتقاصا منه تمثلوا بقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص – فهي الشهادة لي بأني كاملُ
وهكذا الحال عندما نتطرق لمجال “السرقات الأدبية” التي اتهم بها بعض أهل الأدب أبا الطيب. ولا ضير في ذلك، إذْ لا يوجد شاعر كامل، والمتنبي -على عظمته- في شعره ما يتخلل الشعر أحيانا من عيوب.
وقد تناول عدد من المصنفين سرقات المتنبي وعيوب شعره، منهم مثلا الصاحب بن عباد في كتابه “الكشف عن مساوئ شعر المتنبي”. وقد أعان الصاحب على هذا الكتاب كرهه للمتنبي وحقده عليه، ومن هنا جاء كتاب الصاحب بن عباد أحد أبرز من عرفوا بكره المتنبي والحقد عليه.
في سرقات المتنبي أيضا وعيوب شعره ألف أبو علي الحاتمي كتابه “الرسالة الموضِّحة في ذكر سرقات أبي الطيب المتنبي وساقط شعره”، هكذا سمى كتابه. ابن بسام النحوي أيضا ألفه كتابا سماه: “سرقاتِ المتنبي ومشكل معانيه”. ألف ابن وكيع أيضا كتابا طريف العنوان سماه: “المنصف للسارق والمسروق منه في إظهار سرقات المتنبي”، وهو من أسهب الكتب في التطرق لسرقات المتنبي. الثعالبي أيضا في اليتيمة، عندما تطرق لشعراء الدولة الحمدانية وأتى ببديع شعر المتنبي، خصص فصلا مستقلا لسرقات المتنبي وعيوب شعره.
ومن الجدير بالذكر أن السرقة في الشعر ليست مذمومة كلها. فالشاعر قد يأخذ المعنى من شاعر سبقه ويطور المعنى ويأتي به في حلة أحسن وكلام أبلغ، فيكون المتأخر في هذه الحال أولى بالمعنى من المتقدم. فالذي حصل هنا هو تطوير وليس سرقة بالمفهوم القدحي للسرقة. وقد يأتي الشاعر -دون أن يقصد- بمعنى أتى به شاعر قبله، وهذه أيضا لا تسمى سرقة.
لكن السرقة المذمومة في الشعر هي السرقة التامة، هي النسخ واللصق كما يقول المعاصرون، فنحن نعرض هنا نماذج من بعض سرقات المتنبي -محمودها ومذمومها-.
سرق المتنبي قول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا – وأسيافنا ليل تهاوى كواكبُهْ
فقال المتنبي:
وكأنما كسي النهار بها دجى – ليل وأطلَعت الرماح كواكبا
فكل ما فعل المتنبي أنه أخذ معنى بشار وجعل الرماح مكان السيوف.
سرق أيضا المتنبي قول مسلم بن الوليد:
أرادوا ليخفوا قبره من عدوه – فطيبُ تراب القبر دل على القبْرِ
فقال المتنبي:
وما ريح الرياض لها ولكن – كساها دفنهم في الترب طيبا
سرق أيضا المتنبي قول الفرزدق:
وكنت فيهم كممطور ببلدته – يُسر أن جمع الأوطان والمطرا
فقال المتنبي:
وليس الذي يتَّبِّع الوبل رائدا – كمن جاءه في داره رائد الوبل
في هذه اللامية نفسها سرق المتنبي أحد المعاني في قوله:
وخيلٍ إذا مرت بوحش وروضة – أبت رعيَها إلا ومِرجلنا يغلي
وهذا أخذه من قول امرئ القيس:
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا – تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطَب
امرؤ القيس يصف خروجهم للصيد فيقول إن البعض منهم إذا خرج يطلب الصيد جهز البعض الآخر النار فأوقدها لأنهم واثقون من ظفر أصحابهم بالصيد. فهذا هو المعنى الذي أخذه المتنبي.
أخذ المتنبي أيضا قول أبي تمام:
غرُبَتْ خلائقه وأغرب شاعر – فيه فأبدع مغرب في مغربِ
فقال المتنبي في مدحه لأبي العشائر:
شاعر المجد خدنه شاعر اللفـ- ـظ كلانا رب المعاني الدقاقِ
وقد أحسن المتنبي كثيرا في بيته هذا وفاق أبا تمام.
سرق المتنبي قول عبيد الله بن طاهر:
وجربت حتى لا أرى الدهر مغربا – علي بشيء لم يكن في تجاربي
فقال المتنبي وقد أحسن كثيرا:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا – فلما دهتنا لم تزدنا بها علما
وسرق أيضا المتنبي قول ابن المعتز:
البدر من شمس الضحى نوره – والشمس من نورك تستملي
فقال المتنبي:
وتكسِبُ الشمسُ منك النور طالعة – كما تكسَّب منها نورَها القمَرُ
والمتنبي كان كثير الأخذ من ابن المعتز، ومن ذلك بيت المتنبي الشهير:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي – وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فهذا البيت أخذه من قول ابن المعتز:
لا تلقَ إلا بليل مَن تُواصله – فالشمس نمامة والليل قوادُ
لكن بيت المتنبي أحسن بكثير، لأن المتنبي قابل في بيته بين ثمانية أضداد. فقابل بين الزيارة والانثناء (أزور أنثني)، وقابل بين السواد والبياض (سواد الليل بياض الصبح)، وقابل بين الليل والصبح، وقابل بين الشفاعة والإغراء (يشفع لي يغري بي). وهذا أمر نادر في الشعر، فالمتنبي هو أول أتى بثمانية أضداد في الشعر، سبقه البحتري في ستة أضداد وأحسن غاية الإحسان حيث يقول:
يا أمة كان قبح الجور يسخطها – دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها
فقابل بين القبح والحسن، وبين الجور والعدل، وبين السخط والرضا،
من سرقات المتنبي أيضا سرقته لقول البحتري:
جل عن مذهب المديح فقد كا – د يكون المديح فيه هجاءَ
سرق المتنبي هذا المعنى فقال:
وعُظْم قدرك في الآفاق أوهمني – أني بقلة ما أثنيت أهجوكا
بعدما تطرقنا لبعض سرقات المتنبي، حريّ بنا أن نذكر بعض ما عيب عليه في شعر.
فقد عابوا عليه مثلا تكرار المعاني في أكثر من مناسبة، فهو يقول في بعض مدائحه:
أمير أمير عليه الندى – جواد بخيل بألا يجودا
فقد أعاد هذا المعنى في قوله:
سوى أن الندى أضحى أميرا – على مال الأمير أبي الحسينِ
ومن تكراره أيضا قوله:
الذي زِلت عنه شرقا وغربا – ونداهُ مقابلي ما يزولُ
حيث كرر هذا المعنى في قوله في مناسبة أخرى:
ومن فر من إحسانه حسدا له – تلقاه منه حيثما سار نائل
مما عيب أيضا في شعر المتنبي وذكره أكثر من لغوي، قبح بعض مطالعه، كقوله مثلا:
أحاد أم سداس في أحادِ – لييلتنا المنوطة بالتنادي
فاستثقلوا هذا البيت واعتبروه متكلفا.
ومثل ذلك أيضا في أحد مطالعه:
مُلثَّ القطر أعطشها ربوعا – وإلا فاسقها السم النجيعا
فرأى الثعالبي رحمه الله أن هذا الابتداء ابتداء بشع.
مما عيب على أبي الطيب أيضا تمرده على الوزن أحيانا، كقوله:
تفكره علم ومنطقه حكم – وباطنه دين وظاهره ظرفُ
فشطر هذا البيت الأول تفكره علم ومنطقه حكم آخره مفاعيلن وهو شيء لم يعرف عن العرب، فلا تختم العرب شطر الطويل بمفاعيل في غير القافية إنما تختمه بمفاعِلن.
مما عيب أيضا في شعر المتنبي اسكثاره من قول “ذا”، كقوله مثلا:
وإن بكينا له فلا عجب – ذا الجزر في البحر غير معهودِ
وكقوله:
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم – قفاه على الإقدام للوجه لائم
وكقوله:
أريد من زمني ذا أن يبلغني – ما ليس يبلغه في نفسه الزمن
إلى آخر ذلك فهو كثير استعمال ذا في شعره.
ومما عيب على المتنبي أيضا تكرير اللفظ في البيت الواحد من غير تحسين كقوله مثلا:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله – ويجهل جهلي أنه بي جاهلُ
وكقوله أيضا:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا – قلاقل عيس كلهن قلاقل
وكقوله:
وإني وإن كان الدفين حبيبه – حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي
وكقوله:
ونهب نفوس أهل النهب أولى – بأهل النهب من نهب القماش
فهي إعادات ثقيلة في الأذن لا يحبها النقاد، ومن ذلك ما يروى من أن رجلا أنشد الأصمعي فقال:
فما للنوى جدُّ النوى قطع النوى – كذاك النوى قطاعة لوصال، فقال له الأصمعي:
سلط الله على بيتك شاة فأكلت كل هذا النوى.
وهكذا فكثيرا ما تجد في شعر المتنبي أبياتا كهذه.
لكن نعود ونقول، إن هذه العيوب والسرقات التي رصدها الأدباء، لا تنقص من مكانة المتنبي وعظمته، فقد أجمع الناس على أنه أكثر الشعراء تأثيرا في تاريخ العرب.
عشتم طويلا.