تجارب
في غمرةِ اليأس من كل العالم، بعربه وعجمه إلا من رحم ربّي، أتساءل ما هذا الذي يحدث لنا؟ وما كل هذا الخذلان، لو كنّا نعاجاً لأشفق العالم علينا، فكيف ونحن بشر، ولسنا كأي بشر، أهل فلسطين في غزّة!
لعامٍ كامل نُذبَح، بل نُقَطَعُ أشلاءً، ونوضَعُ في أكياس، وأحياناً تتبخر أجسادنا لهول الانفجار، حتّى أنّ خطاباً قاسياً للمحتلّ لا نكاد نسمع إلا عبر نوّاب مجالس تشريعية في الغرب وهم قلة، أما العرب فكأننا مع عهدٍ جديد بهم. كنتُ أثناء الانتفاضة الثانية أتذكر حينما أعود من المدرسة وأجلس على التلفاز لأسمع القمة العربية، تلك الكلمات النارية في وجه المحتلّ وكنت على صغري أشعر بأنها قليلة ولا جدوى لها، ليأتي هذا الزمن الكسيح بلا قولٍ ولا فعل، فلا نسمع خطاباً استنكارياً ولا طرداً لسفير وهذا أقل ما ظننا أننا سنشاهده، لكنني رأيت رئيس فنزويلا يخطب لحرية فلسطين، ذلك الرئيس الذي لم تمشِ قدماه على أرضنا، وليس مسلماً فيتعرف على قدسية حديث سيدنا الرسول وهو يوصي المسلمين على المسجد الأقصى، لكن سبحان الله عرف من الله عز وجل ما لم يعرفه الذين كنّا نراهن على أُخَوّتهم.
كل هذا العذاب الذي أصابنا أرقّني أرقاً شديداً، والحقيقة أنّ سؤالاً وردني على إحدى حساباتي في السوشيال ميديا يقول صاحبه: “لم يكن الوقت مناسباً لإيقاد حفيظة الثور الصهيوني”. السؤال الذي يلقي اللوم على شعبنا المسكين المضطهد من أكثر من 75 عاماً وينتصر للمحتل البغيض الذي يعربد حتى على الهواء الذي نتنفسه، وفي غمرة ألمي شعرت أن الله عزّ وجل يعيدني إلى الحديث النبوي المتعلّق بالطائفة المنصورة، ووقفتُ أمامه متأملة علّني أجدُ إجابةً لكلّ هذه الصراعات في روحي، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهم ولا مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”.
الحقيقة أنني كنتُ أقرأ الحديث الشريف قبل هذا الوقت وأمرّ عليه مروراً عادياً لكنني اليوم حين أقرؤه أرتعش، لأننّا نعيش تمام معانيه وحقّ الذي رفع السماوات بلا عمد،وصيغة (لا تزال) التي بدأ فيها النبي عليه السلام الحديث تقريباً متفق عليها في كل صيغ الحديث على اختلاف الروايات، لم يقل (كانت) أو (سيكون)، قال لا تزال، بمعنى أنّ هذا الفعل مستمرّ وحاضر، ومن يقرؤه يستشعر بحضوره الزمنيّ الآنيّ، وكأنّها طائفة متجددة متكررة، يتناقلون هذا الصبر من الأجداد إلى الأبناء إلى الأحفاد، وهذا حصراً لأمّة النبي صلى الله عليه وسلم فالحبيب يقول (من أمّتي)، لا أحد يستطيع أن ينكر أحقيتنا في أرضنا التي سُلبت منا قهراً وعدواناً، فحقنا ظاهر وواضح وضوح الشمس في كبد السماء، والذين يقاتلون الآن هم الجيل الثالث تقريباً للذين هاجروا رغماً عنهم في نكبة 1948، ولا أحد يستطيع أن ينكر أيضاً أنّ غزّة تقهر المحتلّ، سيقول الكثيرون كيف تقهره وكل هذه المجازر تتحقق بنا؟ أردّ عليه وأقول لأنّها تقهره يرتكب كل هذه المجازر، منذ فترة قصيرة قصف الاحتلال عدّة أطفالٍ يلعبون كرّة القدم في مخيّم الشاطئ، (يلعبون كرة القدم)، من يستطيع أن يقنعني أنّ من يفعل ذلك ليس عدوّاً مقهوراً، إنّ عمليات إبادة التطهير العرقي التي تحدث الآن في شمال غزة هي دليل قاطع على قهره، استمراره في عملياته العسكرية لأكثر من عام في مساحة جغرافية صغيرة جدا مثل قطاع غزّة وصور جنوده وهم يأخذون الصور وهم سعداء بجانب منازلنا المقهورة وألعاب صغارنا الممزقة وجثثنا المتفحمة هذا دليل أنّه عدوّ مقهور، هكذا يفعل العدوّ المقهور أيّها السادة، لأنّ المنتصر الحقيقيّ لا يفعل كل ذلك، فالمنتصر يدركُ ماهية النصر كجنديّ يعرف ما معنى أن يقاتل حتى آخر رمق، وليس حتى آخر صورة سيلفي مثل هذا الكيان الصهيوني، كل صورنا تقهر الاحتلال، لا أحد يستطيع أن ينكر كيف نظرات ذلك الأسير العاري أمام جندي مدجج بالسلاح يصوب بندقيته أمامه كيف قهرته، حتى وهم يظهرون صورة المنتصر نجد بأنّ انتصارهم يتحول إلى هزيمة والدليل على ذلك صورة أبو إبراهيم وهو يقاوم حتى آخر نَفَس، يعني أنّهم نقهرهم حتى على أيديهم، وهذا من أعجب القهر لمن يستطيع أن يتأمل.
“لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم”.. الحقيقة أنّ كم الخذلان الذي يحيط بنا من القريب قبل البعيد يصيبنا بالاختناق، نقرأ هذا الحديث فنرتاح، فسبحان من جعل حضرة النبي عليه السلام لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ومعنى هذا أنّ هذه الطائفة المنصورة، لا يكون توقيتها في فترة دعم وموالاة، يعني هي تكون في فترة خذلان شديد، وهذا الذي يحصل الآن، بمعنى أنّ كل شخص يقول أنّ الوقت ليس مناسباً لنقاوم الاحتلال، عليه أن يقرأ حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّ ميزان هذه الحرب ليس ميزاناً بشرياً، وكل ما يحصل بنا حقيقةً هو تقدير العزيز العليم، وإعداد الله عز وجل لطائفته المخذولة فعلاً من العالم، والمنصورة به.
“إلا ما أصابهم من لأواء”.. أي الجوع الشديد والتعب، نعم لقد أصابنا الجوع والحزن والضنك والخذلان لكنني ما وجدت أهل غزة إلا صابرين، وفي أغلب من أعرف كان أهل الشهداء هم الذين يُصبّرون من يأتون لتعزيتهم، في مشهدٍ عجيب لا يدلّ إلا على أنّ الله عزّ وجل قد تولّانا بسكينته ورحمته وإفهامه، لأنّ ما نراه تزول منه العقول، والسرّ كل السرّ في هذا المقطع (وهم كذلك حتى يأتيهم أمر الله) يعني سيظلون مخذولين، بمعنى أن حضرة النبي عليه السلام لم يعدنا بتغيير خذلان الخاذلين أو خلاف المخالفين، وهكذا هم الثابتون في جباليا وبيت لاهيا منذ عام كامل، آثروا الشهادة والرباط حتى آخر رمق، وقد رفضوا مغادرة بلداتهم تحت رغم الرصاص والجوع، ولا يزالون، حتى يأتينا أمر الله، هذا الأمر المعجزة الذي نتيقن تماماً بأنه حادث لا محالة، وأن دماء أهلنا وأطفالنا البريئة لا تهون على ربّنا العدل أبداً، وسيُغيّر موازين الأرض من أجلنا.
” وأين هم يا رسول الله “.. تخيّلوا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لنا أنتم أولئك يا أهل غزة، أنتم أهل أكناف بيت المقدس، ألا يهوّن علينا هذا؟ لا يظننّ أحدٌ أن أمرنا بيد الساسة أو العدو أو العرب، والله إنّ أمرنا بيد الله عز وجل، ليقضى بنا أمراً كان مفعولاً، ونسأله أجر الرباط في سبيله لوجهه الكريم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.