مدونات
لم يكن الموت في يوم من الأيام في معايير نضال الشعوب المتطلعة نحو الحرية، يعول عليه في ترجيح كفة الصراع لصالح أهل الباطل، فقد مر على الأمة العربية والإسلامية فترات عصيبة هددت وجودها ومعتقدها، فما تراخت ولا لانت ولا ضعفت عن مسيرة الحق والصدوع به ودحر الباطل، وما يمرق عليها من تفكك وتزعزع إلا كبوة ستعود مرة أخرى، أقوى من السابق فتية يانعة.
مات واستشهد كثر من قادتها، فما جبن من استلم الراية من بعدهم، بل استمرت المسيرة وحقق النصر المبين. وذكرنا للقادة الذين استشهدوا أو توفاهم الله، إلا ليكون نبراساً يستهدي بنوره أجيال هذه الأمة التي ستظل حية مهما أصابها من ذبول وتراجع. و لا نهدف إلى المقارنة بين أولئك القادة الذين تعنوا في سبيل حمل هم الأمة على أكتافهم، وبذلوا أرواحهم وأموالهم لرفع بيرق العدالة والمساواة، فلكل قائد شخصيته وظروفه والمهمة التي اضطلع عليها وملابسات وفاته. و على رأسهم حبيبنا وشفيعنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقت حضرته الوفاة، بكاه البشر والحجر والشجر بل الكون بأسره، لم يصدق الصحابة رضوان الله عليهم خبر ارتقاء النبي إلى الرفيق الأعلى، فكيف حال عامة المسلمين، وقال أنس بن مالك في ذلك الحدث الجلل، الذي وقعه كان بمثابة الصاعقة على المسلمين: “ما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم”، و ترصد السيدة عائشة رضي الله عنها لحظات احتضاره صلى الله عليه وسلم: وما أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من السواك، حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه فأصغت إليه عائشة رضي الله عنها وهو يقول: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى، وكرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى، وماذا بعد ذلك؟ هل طويت صفحة الإسلام للأبد بموت صاحبها؟ بالتأكيد لا…بل قوت شوكتها وعظم شأنها، على يدي أبو بكر الصديق رضي الله عنه خير خليفة للرسول العظيم، ورفع راية رسالة الإسلام من جديد، وبدأت عمليات تحصين الإسلام وأهله، ومحاربة أهل الفتن والردة، الذين ظنوا أن رسالة الإسلام قد انتهت بوفاة حاملها الرسول صلى الله عليه وسلم، أعاد خليفة رسول الله أبو بكر الصديق الثقة بنبل دعوة الإسلام وسمو قيمها وأصالة معانيها و أنها باقية لن يخبو سراجها.
ورفرفت راية التوحيد خفاقة عالية من بعده على يد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعظمت مكانة الإسلام واتسعت فتوحاته لتضم بقاعاً وأصقاعاً جديدة إلى الدولة الإسلامية، خاضت الأمة الإسلامية لأجلها معارك صعبة ومفصلية استشهد فيها خيرة من رجالها الذين شدوا أوتاد أركان الإسلام، وكان خالد بن الوليد من أبرز القادة الذين كان لهم اليد الطولى في انتصار المسلمين ورفعة كلمة الإسلام، واشتد عود الدولة الإسلامية الفتية الواعدة، فكأنما حيزت لهم الدنيا وما فيها. تمنى الشهادة لكنه لم ينلها، وعندما حضرته الوفاة، حزن حزناً عميقاً لأنه لم يسقط شهيداً في معاركه ضد أعداء الأمة، وقد قال وهو على فراش الموت: “لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر إلا وفي ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء” توفي خالد بن الوليد في خلافة عمر بن الخطاب، وقبضت روحه بعد صراعه مع مرض أصابه في العام الواحد والعشرين للهجرة وقد بلغ من العمر ستين عاماً. لقد حقق خالد بن الوليد انتصارات وبطولات خالدة في أكثر من مئة معركة، وفتح العراق والشام. ورثاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: “قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق، وليته بقي ما بقي في الحمى حجر، كان والله سدادا لنحور العدو، ميمون النقيبة”.
وتعاقبت على الأمة الإسلامية أحداث مهيبة، وتعرضت لاهتزازات قاسية وزلزلت زلزالاً شديداً، ومن أخطرها الحملات الصليبية التي تمخض عنها الاستيلاء على بيت المقدس، وانتظرت الأمة مئة عام، حتى سطع نجم الناصر صلاح الدين الأيوبي، الذي نذر نفسه لطرد الصليبيين واسترداد القدس، فتكالبت أمم أوروبا على الدولة الإسلامية لنهش ديارها في القدس والشام، سقط فيها العديد من المسلمين قتلى على أيدي الصليبيين وحلفائهم، واجههم صلاح الدين وتصدى لهم واستطاع أن يسترد القدس ويعيدها إلى حضن الأمة الإسلامية، في معركة حطين التاريخية التي هزت أرجاء أوروبا وعروش ملوكها، وفرح المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أيما فرح. لقد وفى صلاح الدين نذره وأعاد القدس إلى أهلها، لكنه شعر أن منيته قد حانت، فثقل عليه المرض حتى يأس الأطباء من حاله، وتوفي فجر يوم الأربعاء في ٢٧ صفر سنة ٥٨٩، فأفجع موته المسلمين، وبكاه الكثيرون عند تشييعه، لم يخلف رحمه الله ملكاً ولا داراً، فقد أنفق معظم ماله في الصدقات، وعندما فتحت خزانته الخاصة لم يكن فيها ما يكفي من المال لجنازته سوى سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً ذهبياً.
هؤلاء هم القادة يرحل قائد ويخلفه قائد آخر، فهل اندثر الإسلام ومحيت دعوته؟! بل سما صيته وعلت منزلته، واستلم اللواء قائد من طراز فريد، استلهمت منه الأمة طريقها إلى النصر بلا هوادة، قطز القائد المملوكي الذي امتازت شخصيته بالجرأة والفطنة والجلد وإيمان راسخ لا يلين، لمع اسمه في أحلك فترات الدولة الإسلامية ظلمة، يتربص بها العدو الصليبي من جهة وجحافل المغول من جهة أخرى، فالأخير هجم على ديار الإسلام وغرز أنيابه في حاضرة العالم الإسلامي، بغداد الرشيد فأسقط الخلافة، وعاث فيها قتلاً وذبحاً وتدميراً، لم يعرفه البشر قبل ذلك، التحديات كانت جسيمة واجهة السلطان قطز، لم يواجهها قائد من قبله، لكنه استعان بالله وجهز جيشاً منيعاً قوياً واستنهض الهمم في عموم الديار المصرية وبلاد المسلمين، وحشد لمواجهة أعتى الجيوش وأكثرها وحشية وشراسة، وجلب النصر من بين ثنايا اليأس والموت والهزيمة، لأنه آمن وأيقن أن النصر من عند الله، فحمل على كتفه المشروع الإسلامي العريق، واستطاع وبجدارة قطز وبقية أمراء المماليك كبيبرس وقلاوون وغيرهم، من هزيمة جيش المغول هزيمة نكراء وانتزاع النصر انتزاعاً، فعاد المغول لديارهم يجرون أذيال الخيبة والخزي والعار. وابتهج المسلمون بهذا الانتصار، لكن فرحة النصر لم تكتمل، فقد قتل السلطان قطز في ٢٤ أكتوبر عام ١٢٦٠ بعد ملحمة تاريخية فاصلة، لم يشهد لها مثيل في تاريخ الحروب والفتوحات الإسلامية في معركة عين جالوت الخالدة، فبعد ٥٠ يوماً من المعركة رحل قطز. فهل ختم بموته الفصل الأخير من الصراع الأزلي بين الحق والباطل؟ أم خفت جذوة مناجزة الحاقدين المتربصين بالأمة للانقضاض عليها والنيل منها؟
وفي هذه الفترة من عمر الأمة العربية والإسلامية، تشتد الخطوب ويثخن الأعداء بأرض غزة هاشم، ويزداده بطشهم وغطرستهم، سالت دماء الأبرياء في كل غزة، دماء سترويها كتب التاريخ بألم وحسرة، واستشهد قادة كثر وتألم المخلصون الأحرار، لفجيعة فقدانهم، وما عقمت أرحام الحرائر، فولد قائد وأعقبه آخر، وما قصم ظهر الأمة وما خضعت للعدو، فالتعويل على الله وليس على المخلوق الضعيف، مدركين أن الموت هو نهاية كل البشر، فشتان بين موت بآخر، فأن تموت شريفاً كريماً قاهراً لعدوك ذائقاً طعم الشهادة، خير من أن تموت ميتة الذليل الخانع، الذي يفسح للأوغاد فرصة الانقضاض على حرمة الوطن، وما شهادة يحيي السنوار إلا صفحة مضيئة من صفحات كفاح الأمة لاستعادة الحقوق ورد المظالم، والنيل من الظالم ونكصه على أعقابه وردعه بجسارة، وإعلاء كلمة الحق، وقطع الطريق على الخطط التي تحاك لأهل الحق في الخفاء.
فهو الحق لن يضيع مادام أهله قابضين على جمر مقاومة المعتدي والثبات على الحق. فصورة شهادة يحيي السنوار (أبو إبراهيم) رسمت خارطة طريق لأولئك المدافعين عن حقوقهم العادلة، حراس كلمة الحق، ومن عظم مكانته وعلو شأنه رثاه الأحرار في شتى بقاع العالم، وأظهرت صورة مخزية لأعدائه، أرادوا أن يشوهوا حقيقة موته، ويقتلوا نقاء وطهارة هدفه، فارتدت عليهم بالسوء والاستهجان.
بكاه كثر كما بكوا قبلهم القائد عبدالقادر الحسيني، والشيخ أحمد الياسين ويحيي عياش، والشيخ المجاهد عمر المختار، وقادة المقاومة الجزائرية، ومن مشى درب الحق، فالمسيرة ستظل ولن تتلاشى، فحتمية رضوخ العدو لصاحب الحق لا ريب فيه، وميزان النصر لن يختل بفقد قائد أو زعيم، وسيحسم الصراع في النهاية لصالح الحق، وترجح كفة ميزان النصر له مهما طال البلاء أو اشتد… فهذا وعد الله ولن يخلف الله وعده.