مدونات
الكاتب: كرم الدين حسين
في ظل الأزمات المتتالية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، يبدو أن إعادة إعمار الدول المتضررة من الحروب ليست مجرد ضرورة إنسانية، بل ركيزة أساسية لإعادة الاستقرار الداخلي والإقليمي، ولبنة لتحقيق الاستقرار العالمي. إن المشهد المعقد الذي خلفته الحروب في سوريا والعراق وليبيا واليمن جعل الحاجة إلى جهود إعادة الإعمار ضرورة استراتيجية تتجاوز حدود تلك الدول، لتشمل كل من له مصلحة في أمن واستقرار المنطقة.
إعادة الإعمار تحمل بُعدًا استراتيجيًا يتجاوز الحيز الاقتصادي والاجتماعي، حيث إن استمرار التدهور في البنية التحتية والخدمات الأساسية لتلك الدول يؤدي إلى خلق فراغات أمنيّة واقتصادية تُغذي ظواهر التطرف العنيف، وتُسرع من حركة الهجرة غير الشرعية. ومن هنا، يمكن القول إن استقرار دول الشرق الأوسط المتضررة ليس قضية محلية فحسب، بل هو مصلحة إقليمية وعالمية، تتطلب تضافر الجهود المحلية والدولية لتحقيقها.
إعادة الإعمار وأمن الخليج دول الخليج، التي تسعى لتعزيز استقرارها الداخلي وتنويع اقتصاداتها بعيدًا عن الاعتماد على النفط، ستجد أن استثمارها في إعادة إعمار دول الجوار يشكل جزءًا من استراتيجيتها لتعزيز أمنها القومي. فالتدهور المستمر في دول مثل العراق وسوريا واليمن يُشكل تهديدًا مباشرًا لأمن المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يُمكِّن إعادة الإعمار دول الخليج من توسيع نطاق نفوذها السياسي والاقتصادي، حيث يمكن أن تصبح الجهات المانحة والداعمة في عملية إعادة البناء، وهو ما يعزز دورها في المنطقة ويمنحها القدرة على ضبط التوازنات الجيوسياسية. من الناحية الاقتصادية، تشكل إعادة الإعمار فرصة لتعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي. فعلى سبيل المثال، الشركات الخليجية يمكنها أن تلعب دورًا محوريًا في مشاريع البنية التحتية وإعادة الخدمات العامة إلى هذه الدول. إعادة الاستقرار إلى سوريا والعراق وليبيا لا يخلق فقط فرصًا اقتصادية، بل يفتح أسواقًا جديدة ويعزز التجارة الإقليمية، مما يعود بالنفع على جميع دول المنطقة.
الدول الكبرى ومصلحة الاستقرار العالمي من جهة أخرى، فإن الدول الكبرى، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، لها مصلحة مباشرة في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. الأزمات التي عصفت بالمنطقة لم تقتصر على حدودها الجغرافية، بل امتدت لتؤثر على الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي في أوروبا، من خلال موجات اللاجئين التي أثرت بشكل مباشر على البنية السياسية في الدول الأوروبية.
على سبيل المثال، شهدت أوروبا تصاعد التيارات الشعبوية التي استخدمت أزمة اللاجئين كذريعة لتبرير توجهاتها المتطرفة والمناهضة للعولمة والتكامل الأوروبي. إلى جانب ذلك، فإن استمرار الأزمات الأمنية في الشرق الأوسط يُشكل تهديدًا للتجارة العالمية، خاصة أن المنطقة تُعدّ من أهم مناطق مرور التجارة البحرية والنفطية. وبالتالي، فإن المساهمة في إعادة إعمار تلك الدول هو استثمار في الاستقرار العالمي، الذي بدوره يسهم في تقليل الآثار السلبية للأزمات المتواصلة في الشرق الأوسط، والتي قد تمتد لتشمل الإرهاب العابر للحدود والجريمة المنظمة.
البعد الإنساني والإنمائي لإعادة الإعمار
إعادة الإعمار لا تقتصر على إعادة بناء الجدران والبنية التحتية المادية فقط، بل تتطلب نهجًا شاملاً يركز على إعادة بناء المؤسسات وتعزيز العدالة الاجتماعية وتحقيق التنمية المستدامة. ذلك أن المجتمعات المتضررة من الحروب بحاجة إلى أكثر من مجرد استعادة لمبانيها المدمرة؛ تحتاج إلى استعادة ثقتها في الدولة والمؤسسات، وتوفير فرص عمل وتحقيق الأمن الغذائي والصحي.كما أن الاستثمار في إعادة الإعمار يمكن أن يُسهم في الحد من الظواهر التي تنتج عن الحروب مثل التطرف والإرهاب. فالشباب الذين يعيشون في بيئات مدمرة ومفتقرة إلى فرص العمل والتعليم هم الأكثر عرضة للتجنيد في الجماعات الإرهابية أو للهجرة غير الشرعية. لذا فإن إعادة إعمار تلك الدول، إذا تم بشكل صحيح ومدروس، يُمكن أن يُعيد الأمل للشعوب ويُحقق استقرارًا دائمًا.
إعادة الإعمار هي استثمار في المستقبل في نهاية المطاف، فإن إعادة إعمار دول الشرق الأوسط المتضررة من الحروب ليست مجرد مسألة إنسانية أو اقتصادية، بل هي استثمار في السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي. من خلال استثمار الموارد المالية والسياسية والدبلوماسية في تلك العمليات، يمكن للدول المعنية أن تضمن مستقبلًا أكثر استقرارًا لها وللعالم أجمع. إن هذا الاستقرار لا يعني فقط تحقيق الأمن، بل أيضًا فتح الباب أمام فرص تنموية جديدة تسهم في تعزيز التكامل الإقليمي والدولي، وتقلل من التحديات الأمنية والاقتصادية التي تهدد المنطقة والعالم ككل. إعادة الإعمار إذًا ليست خيارًا، بل ضرورة لتحقيق مستقبل أفضل للجميع.