يسجل المؤرخون الثقاة أسباب صمود الأندلس لقرون عدة باستنادها المفعم بمعاني الالتزام الإسلامي الباهرة إلى الظهير المغربي، بل ان تاريخ هذا البلد القصي الذي استمر 800 عام بقي مرتبطاً بالمغرب منذ لحظة الفتح الأولى عبر مادة جيش القائد الكبير طارق بن زياد، ومن خلال التداخل المجتمعي والسياسي والعلمي والاقتصادي.
وفي ضمن ذلك كان صمود آخر أشكال الوجود الإسلامي السياسي المتمثل بمملكة غرناطة، والذي بقي قرابة قرنين ونصف، في ظاهرة فريدة تبقى واجبة التدريس والاعتبار، مما كان تتويجاً لذلك الدعم المستمر، وثمرة طيبة لذلك. ولكن كيف إذا أصاب ذلك الظهير ذاته الضعف والتراجع؟!
هنا تبدو الحالة حرجة، ففي الوقت الذي كان ذلك الاسناد عاملاً ايجابياً ودافعاً للبقاء والحياة، فان الركون المطلق عليه لوحده مثّل بحد ذاته خللاً كان يستدعي بناء القوة الذاتية القادرة على الصمود بوجه أمواج التحديات التي لم تعرف الهدوء يوماً، ليس هذا فحسب وإنما تقديم الدعم المعاكس حال الاحتياج إليه مما لم تتمكن الأرض المتحفزة إزاء حصار الأعداء المستمر من تحقيقه بطبيعة الحال.
وهكذا حين أصيب الظهير الداعم بالضعف والتفكك انعدمت قدرته على المواصلة، واجهت غرناطة نهايتها المحتومة ببطء حزين مشوب بعدم تعلم درس الاتحاد الواجب وغلبة الفرقة والنزاع في أشد اللحظات حراجة، فضلاً عن عوامل أخرى ليس هنا مجالها.
المهم، ما نريد قوله أن الدرس التاريخي المهم هنا يتمثل بضرورة ترميم الذات قبل انتظار الإسناد، وتطوير الإمكانيات وتحسين أسوار الوجود بالقوة الداخلية التي تحمل معها بذور الصمود، حتى إذا جاء الظهير كان عاملاً مضافاً يزيد من متانة وقوة الوجود، أما الركون إلى الأخير وحده فذلك يُوجد خللاً بنيوياً لا علاج له، بل هو يزيد من الغرق في بحور التفاؤل الواهم، والاطمئنان المخيف، والسير العاجل نحو الانهيار دون شعور بين أو استعداد!
إن فكرة إيجاد التحالفات، قديماً وحديثاً، والحصول على الإمداد ليست مشكلة في ذاتها، أبداً، بل هو نمط من حسن إدارة الصراع والحياة، ناهيك عن كون ذلك المدد المتحقق من ذات البيئة والانتماء، فهو أمر يقّويه لأنه يأتي تعبيراً عن التزام بهوية واحدة ومشروع مشترك، وليس انحيازاً إلى تحقيق مصلحة ما بأي حال من الأحوال، والأمر يشمل كل جوانب الحياة بدءاً من يومياتنا الشخصية، مروراً بالمؤسسات مختلفة الانواع والتخصصات، وانتهاءً بالدول كبيرها وصغيرها.
لكن العلة الكبرى تكمن في محورين، الأول ما ذكرناه أعلاه، وهو الاكتفاء بدعم الظهير ونسيان واجب الوقت المتمثل بالتغيير الذاتي وامتلاك القوة المطلوبة لمجابهة الصعاب، والثاني أنه ـ وفي أحيان عديدة ـ يكون ذلك الاستناد بوابة وبداية للارتهان لإرادة الغير، والخضوع لمتطلباته، أي فقدان حرية اتخاذ القرار، وتقييد النفس، والسير وفق متطلبات ما يمليه الغير، والقبول بكل ذلك من باب الاضطرار، ناهيك عن تأصيل الموضوع بجعله من الضرورات التي تبيح المحظورات.
وفي التقييم النهائي والتام، من تسلب ارادته لا يقل سوءاً عمّن تسلب حياته! يعلمنا التأريخ مرة أخرى ان الدول التي استطاعت تثبيت أنفسها في هذا العالم الكبير المليء بالتحديات والصراعات، هي تلك التي امتلكت زمام مساراتها، وضبطت بوصلتها وفق احتياجها الوطني ان صح التعبير، وتمكنت من تحديد خطواتها بدقة ودون تأثير من هذا الطرف أو ذاك، وامتلكت الوعي المطلوب للتمييز بين التحالف والتبعية، أو توظيف الاحتياج المشترك لبناء حالة تعاونية لازمة للبقاء، وذلك امر يصل إلى مرتبة الوجوب ما دام المصير حياةً او هلاكاً مشترك!
للضرورة فعلاً أحكام وإكراهات، واللجوء إلى الغير كمنا أسلفنا ليس خطئاً إن احسن استخدامه وكان بمثابة السند المضاف وليس السبيل الوحيد، مع توفير ادوات نجاحه، من التحصين الداخلي، وتطوير القوة الذاتية باستمرار، وامتلاك حرية القرار، والتأسيس على معنى التوازن وتقوية المشتركات وعدم جعل أي خطوة في هذا السبيل طريقاً لإذابة الهوية والذات!