سياسة
لا تنقسم المباديء ولا تتجزأ. لا يمكنك الاتساق مع ذاتك لو لم تتسق مع المبدأ العام ولا يمكنك الاتساق مع المبدأ العام إلا بتطبيق معاييرك على ذاتك أولا.
ينسحب ذلك بالأساس على مساري السياسي كما طبقته في مسيرتي الحياتية التي تذهب بي الآن لمنتصف الأربعينات. حاولت دائما الاتساق مع ما يفيد ومع الصالح العام. لم أنفصل عن جذوري أو أتنكر لها. وفي منشئي تعلمت أن تطبيق العدل لا يتسق من دون حسن الخصال في الخصومة. ما واجهته مع هذه السلطة كما يطبق في موقفي من وطني يطبق مع فلسطين والسودان وكل بلد يعاني أهله الضيم وسوء الإدارة. لا يمكنني أن أنبري هنا في الدفاع عن قصية التحرر الوطني من مكابح الشرف والأمانة وما تستحقه مصر من واقع تستحقه ومستقبل تسمو فيه وبين حقوق كل شعب في التحرير الوطني من مكابح حكمه لنفسه واختيار الأصلح لتأدية الخدمات للشعب بقرار الشعب في وطنهم السيد.
لما سعينا للعدالة لنا ولزملائنا الذين نكلت بهم هذه السلطة لأنهم لم يتفقوا مع آليات المرحلة أو توجهها، كنا نسعى إلى خصومة شريف، بل معارضة واضحة علنية وبناءة. لم نسع يوما إلى تخريب أو تواطؤ، ولم ننتهز فرصا كانت سانحة مانحة ولم نبحث من وراء معارضتنا عن مجد ذاتي أو منفعة قريبة. كنا دوما ننظر إلى الأمام، نجاهد أنفسنا قبل أن نجاهد الآخر، ننقيها ونهذبها ونختبرها في الصعاب، قبل أن ننخرط في انتقاد آلية أو معيارية أو عمل أو مشروع أو سياسة.
آلمني حبس 190 زميل وزميلة من حملتي الانتخابية الممنوعة للرئاسة، ومئات آخرين لم يتصلوا بي ولم يعلنوا حتى انضمامهم للحملة يُساءلون عنها في غمرة التحقيق معهم من قبل نيابة أمن الدولة العليا أو الأمن الوطني. أصبحنا اتهاما ولم نكن إلا أمناء على مواقعنا ومسؤوليتنا إزاء ما يحدث في وطننا. حملنا على عاتقنا الدفاع عن مكانة يستحقها كل مواطن.
هؤلاء تستدعيهم جهة استثنائية وهي نيابة أمن الدولة العليا، لسماع شهادات لم يشهدوها. وأحالتنا هذه الجهة وأنا بينهم ومدير الحملة الانتخابية إلى محاكمة عن فعل لم نقترفه. مجموعة من خيرة القانونيين من بينهم قضاة بارزون ومحامون. امتثلنا ونحن نعلم علم اليقين ألا جريمة وألا قضية.
كل ما طلبناه هو العدالة لهؤلاء، وشيء من شرف الخصومة. لم أُستدع لا للتحقيق ولا للنيابة. وحتى المحاكمة لم يُسمح لي بالتكلم ولا بالشهادة. قلتها صراحة: إذا أردتم عقاب شخص بتهمة الأمل فأنا وحدي المسؤول وأنا وحدي من ينبغي أن يكون متهما. كل مواطن مارس حقه الدستوري والقانوني ووجد في نفسه أهلية وتنطبق عليه شروط الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية فأقدم على ذلك، فضلا عن منافسة سلطة تدعي الشعبية ولديها من الثقة ما تستند إليه في القول إن المواطنين اختاروا ويختارون هذه السلطة، فبالله لماذا يُعاقب هذا المواطن في زملائه ومريديه ومناصريه وحتى في من لا يعرفهم أو يعرف عنهم؟!
لن يعوض هؤلاء كنوز الأرض عن أعمارهم التي سُلبت، ولن يعود الزمن بهم ليشاركوا أحباءهم أو يشاركونا لحظات الفرح والحزن التي حُرموا منها. ولن ترجع الأيام ليعيشوا في وطنهم بحرية وبكرامة بأثر رجعي. لكن على الأقل كنا نطلب لهم العدالة التي طلبناها بعدهم لأنفسنا. من يفقد حريته في وطني لفطرة أو مبدأ أو حرية في العقيدة والفكر والتعبير يسدد عن الجميع ضريبة انتقال مصر لما تستحقه التحاقا بعصرها واتساقا مع دورها ومركزها وتاريخها. القضية الفلسطينية المثال الحي على تراجع دور مصر ومقامها. وأدلل به دائما لأنه الميزان، ليس لمحاسبة السلطة في مصر وحدها وإنما سلطات الدول في التعامل مع أدوارها التاريخية فما بالكم بحجم مصر!
إحدى زميلاتي في عربة الترحيلات في جلسة الحكم الأولى سألتني سؤالا: ماذا فعلت أيدينا؟ ماذا اقترفنا؟ سؤال يبدو بسيطا لكنه كاشف جدا لعمق المأساة التي نعيشها ولما رددت به عليها وعلى الناس أجمعين: تمسكنا بحقنا. وحلمنا بألا يكون أي شريف في مكانها. محله ليس السجن ولا المحاكمة. هذا مكان معد للمجرمين بالقانون وبالبينة والأدلة، لا بخصوم سياسيين أو حالمين بوطن أفضل. هؤلاء المجرمين العتاة يتصدرون الآن المشهد، بل وهم من يطبقون العقاب على أناس أبرياء وأوفياء مهانين ومظلومين في وطنهم.
عرفت على المستوى الشخصي عشرات المواطنين المصريين الأكفاء الذين لديهم الكفاءة لتحمل المسؤولية، ولا أدعي أمامهم الكفاءة أو الأسبقية. ليس من بينهم رئيس الجمهورية الحالي. هو الرئيس الذي أعتبر نفسي على كافة المستويات أكفأ وأصلح وأكثر خبرة وأكثر جدارة بتحمل هذه الأمانة. على الرغم من ذلك أطلب من الجميع احترام حق الشعب المصري في أن تكون أمامه كل الاختيارات. الإيمان بأن الشعب هو مصدر السلطة وصاحب الشأن ليس تفضلا أو منة أو عطية، هو الآمر الوحيد وهو الناهي الوحيد، وهو الحكم في النهاية.
قمنا لمعارضة السلطة في كل خطيئة ارتكبتها وأعلنتُ عن ذلك صراحة حتى قبل ترشحي للبرلمان. قضايا وطنية جوهرية مثل عمق مصر الاستراتيجي والحفاظ عليه، تارة في تيران وصنافير وهي المعركة القومية الأبرز إبان وجودي نائبا عن الشعب لخمس سنوات، وخطيئة هذه السلطة في التعامل مع قضية الوجود في مياه النيل بالإهمال والتراخي الذي ينحدر للتفريط في حق مصر في الوجود، والتفريط في أصول الدولة والتفريط في أمنها وشخصيتها وبيع الأراضي وغيرها من حلقات إهمال هذه السلطة وسوء إدارتها لم يكن من الممكن السكوت عنه. ولمَ نسكت أصلا؟! هي حقوقنا فلن نفرط حتى لو فرطوا هم ولن نرضخ حتى وإن رضخوا هم. موقفنا من السودان وليبيا وما يجري فيهما من بعد القضية الفلسطينية كان كافيا جدا لنعرف أن حجم مصر غير مقدر لهؤلاء، ومقدارها لا يعرفه من يديرون هذا البلد ولا يريدون الاعتراف به.
لم يكن من الممكن أن نفرط نحن أيضا أو أن نتواطأ بالسكوت وترك الأيام تمر دون المشاركة الإيجابية. فلو ذهبنا نحن سيبقى مشروع التغيير لبلد يستحق حتى أفضل منه، التغيير ببديل مدني ديمقراطي يختاره الشعب لمن لا يفرط، ولا يخنع ولا يماري جارا هنا أو خصما هناك لجني منفعة، بالتأكيد لا تعد لهذا الشعب ولا هذا الوطن. فلن نهنأ حتى تتحرر مصر من سجانيها وجلاديها وسماسرتها، حتى لو دون ذلك حياتنا ومستقبلنا ومنفعتنا الشخصية أو الذاتية. لن نهنأ قبل هذا!