سياسة
في الثاني من مايو عام ٢٠١١، بعد عناء طويل، وعمليات بحث دامت لعشرات آلاف الساعات، استطاع الأمريكيون بعملية خاصة داخل الأراضي الباكستانية قتل أسامة بن لادن وسرقة جثمانه، ورغم أن الحادث استدعى خروج الرئيس الأمريكي باراك أوباما بخطاب نصر يعلن فيه تخلصه من عدوه اللدود “المطلوب رقم ١” ، إلا أن صورة واحدة لجثمان بن لادن لم تخرج، وبلغ بهم الأمر إلقاء الجثة في عرض البحر، وعلق الجيش الأمريكي أنهم أدوا “الطقوس الإسلامية” على الجثمان قبل إلقائه في الماء.
الأمريكيون في ٢٠١١ تعلموا الدرس مما وقع في ٩ أكتوبر ١٩٦٧، عندما اغتال الجيش البوليفي، بمساعدة المخابرات الأمريكية، الزعيم الكوبي إرنستو جيفارا، إرنستو في حياته كان ثائرًا عتيدًا، شارك في صناعة الثورة الكوبية، وبعد نجاحها أراد أن يصدرها إلى دول أخرى في الإقليم وامتدادًا إلى إفريقيا، لكن جيفارا، بهالته الحالية، هو وليد لحظة خطأ كبيرة وقعت بها القوات البوليفية حين سمحت بالتقاط صور لجثمانه بعد مقتله.
الصورة التي تُظهر جيفارا ينام هادئًا على سرير، وصدره عارٍ ملطخ بالدم والتراب، بينما تتحجر عيناه، وسط حشد من الضباط البوليفيين الذي يبتسمون ببلاهة، مفتخرين بإنجازهم بقتله، لكنهم لم يدركوا بعد أن جيفارا الذي قتلوه سيتحول إلى أيقونة وشعار للحركات الثورية في مختلف أنحاء العالم، نتيجة هذه الصورة التي أعطته أبعادًا أكبر لأسطورته، وانتشارًا أكبر لأفكاره، لدرجة أن صورته تُعتبر من أكثر الصور التي طُبعت في التاريخ.
التاريخ يُكتب بالدم ولكن الصور هي تصنعه
منذ الزمن السحيق، فهم الإنسان البدائي أهمية الصورة وصناعتها وتوقيتها، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بسرديات الحرب وتوثيق لحظاتها الفارقة، بداية من الرسومات في الكهوف، مرورًا باللوحات، ووصولًا إلى الصور الفوتوغرافية، الجنرال الأمريكي دوجلاس مكارثر كان يقول: “التاريخ يُكتب بالدم، ولكن الصور هي التي تُظهر القصة الحقيقية، يجب أن نكون حذرين في كيفية تصوير أفعالنا”.
هذه المقولة التي تحولت إلى استراتيجية، ربما تفسر الشبق الأمريكي تجاه الصورة وكيفيتها وتحليل أثرها، فنرى عادة حرصًا من الجيش الأمريكي عندما يتعلق الأمر بتسريب الصور، ولكن أحيانًا ينتصر المنطق الحيواني ويوثق الجزار صور جريمته وطريقة تعذيبه لضحاياه، كما حدث مع مأساة سجن أبو غريب إبان الغزو الأمريكي للعراق، وتسربت الصور لتكشف فضيحة كبرى، وحوكم الجنود الأمريكيون الذين ظهروا في الصور، قال بعض المحللين حينها إن المحاسبة وقعت نتيجة التقاط هذه الصور وعدم التزامهم العسكري، وليس بسبب الجريمة.
مجددًا المشكلة هنا ليست في الفعل بحد ذاته، ولكن الأزمة في “كيفية تصوير أفعالنا” كما يقول الجنرال الأمريكي.
حرب الصورة
منذ هزيمة الخيال الإسرائيلي في السابع من أكتوبر، وتداول لقطات المقاومين الذين يعتلون دبابة إسرائيلية، والمقاتل الذي يجر جنديًا على الأرض من ياقة زيه العسكري، انهارت السردية الإسرائيلية الأولى عن الوطن الآمن، وعن الجيش الذي لا يُقهر، ومع عدم استطاعتهم تحرير أسراهم بعد أكثر من عام كامل على بداية الحرب، رغم زعمهم سيطرتهم العملياتية على كامل قطاع غزة، انهارت صورة أخرى كانت رسمتها إسرائيل لنفسها كدولة التكنولوجيا والاستخبارات الخارقة.
ظلت إسرائيل أو “الحيوان الذي انفك رَسنه” تبحث لعام كامل عن شبح يحيى السنوار، العدو الأول، المسؤول عن “أكبر مذبحة للإسرائيليين” في تاريخهم غير الطويل، السردية الإسرائيلية انصبت في اتجاهين، الاتجاه الأول لأهل غزة في محاولة لتأليبهم عليه، روجوا فيها أن السنوار يختبئ في أنفاق مريحة مكيفة، بينما يموت شعبه في الخارج، والاتجاه الثاني للداخل الإسرائيلي، وادعوا أن السنوار يحيط نفسه بالأسرى في أنفاق عميقة، ما يوحي بأن الجيش لا يفصل بينه وبين السنوار سوى الحرص على حياة الأسرى، ما يعطي شعورًا واهمًا بالسيطرة.
الستيني المقاتل
عصر الأربعاء الموافق ١٦ أكتوبر، في حي تل السلطان برفح، الذي يتمركز الجيش الإسرائيلي داخله، ويُعتبر منطقة ساخنة لكثرة الكمائن التي تعرض لها الجيش هناك، كان يحيى السنوار (٦١ عامًا) يرتدي جعبة عسكرية، ويتفقد المنطقة رفقة شخصين آخرين، أحدهما قائد كتيبة تل السلطان في القسام، قبل أن تلمح حركتهم دبابة إسرائيلية، فأطلقت قذيفة باتجاههم، تفرق الثلاثة، السنوار توجه للطابق العلوي، بينما أصيب الاثنان الآخران. أطلقت الدبابة قذيفة أخرى، وأصابته شظاياها بقطع في اليد والساق.
تلثم السنوار وربط ذراعه المقطوعة بسلك حديدي محاولًا إيقاف النزيف، قبل أن يرسل الجيش مسيرة للتأكد من بقاء هذا الرجل على قيد الحياة، الرجل حي يجلس على كرسيه، وحاول إسقاط المسيرة بعصا كانت بجواره، اتجهت قوة مشاة إسرائيلية باتجاه الدور الثاني، عاجلهم السنوار الستيني ملقيًا قنابل يدوية باتجاههم، وأصاب منهم أحد الجنود، قبل أن يقتله قناص بطلقة في الرأس.
في مديح الظل العالي
الجنود الإسرائيليون عندما شاهدوا وجه السنوار لم يصدقوا، ولم ينتظروا سماح الرقابة العسكرية. رآها الجنود صور نصر تاريخية، السنوار قتيلًا على الأرض. لم يفكروا في مشهد هوليوودي كما جرت العادة، ولم يعطوا مهلة لقيادتهم العسكرية لتزييف المشهد بما يتناسب مع سرديتهم بخصوص حياة الرجل في عامه الأخير، وتحت سَكرة القتل، نشر المتحدث باسم الجيش مقطع فيديو يوثق اللقطات الأخيرة، ظهر فيها الرجل الستيني كظل شبح، ملثمًا، جريحًا، مقطوع اليد، ينزف، وعندما شاهد المسيرة استجمع ما تبقى من قوته، وبيده الباقية حاول إسقاطها.
إليور ليفري، المحرر بهيئة البث الإسرائيلية، نشر على صفحته الصورة، وعلق عليها: ” اللقطات التي تراها، ليست ما يراه أنصار حماس والجهاد أو حزب الله، إنهم يرون رجلًا قاتل لآخر رمق، حتى بعد إصابته، لم يُذل، لقد أصبح أسطورة بالفعل، رمزًا أكبر من شخصه”.
جثمان السنوار على الأرض، لكنه فوقها، غير محاط بالأسرى، ليس مختبئًا في نفق، مرتديًا جعبة عسكرية، وبجواره مسدسه الغلوك ١٩ الشهير، رابطًا على جرحه، متجاهلًا إصابته، ملثمًا، مشتبكًا في لحظاته الأخيرة. ينقل جون لي أندرسون كاتب سيرة تشي جيفارا، أنه بعد نفاد ذخيرته، هتف قائلًا: “لا تطلقوا النار، أنا تشي جيفارا، وأساوي حيًا أكثر مني ميتًا”.
السنوار كان باستطاعته عندما رأي المسيرة أن يكرر ذلك، يكتفي برفع يده، لكنه تلثم لكيلا تعرفه، وقاوم حتى النهاية، لأنه يعرف أن الحقيقة عكس ما قال جيفارا، لحظة الموت ستعني كل شيء.