سياسة

نبوءة السنوار وملحميّة الشهادة

أكتوبر 19, 2024

نبوءة السنوار وملحميّة الشهادة


“الآن جاد الموعد يا أماه٬ فلقد رأيت نفسي اقتحم عليهم مواقعهم٬ أقتلهم كالنعاج ثم استشهد. ورأيتني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم٬ وهو يهتف بي: مرحى بك٬ مرحى بك”. كانت هذه الكلمات نبوءة لرجل يقبع في زنازين الاحتلال ومحكوم بالمؤبد وقد قضى نحو عقدين من الزمن في عتمة السجون٬ ولا يعلم أحد إلا الله متى سيتحرر من قيده وكيف سيكون ذلك٬ لكن “أبو إبراهيم” صاحب البصيرة والذي كان في سباق دائم مع الزمن٬ كان موقناً بحريته٬ ولم يشغل باله دوماً إلا هدف واحد٬ الخروج وصناعة وكسر “السلك” لينطق “الطوفان”.

كانت هذه النبوءة التي وثقها المجاهد الشهيد يحيى السنوار “أبو إبراهيم” في روايته التي كتبها منذ سنوات طوال من داخل سجنه٬ “الشوك والقرنفل”٬ لكنه لم يكن يوماً أسيراً لقيده أو سجانه٬ حيث روحه كانت طليقة عنيدة مقاومة٬ تخطط، وتفكر، وتعد العدة ليومٍ قادمٍ يومٍ وعد به جميع من وثق به من حوله، ووفى بوعده في السابع من أكتوبر 2023.


منذ تحرره من سجون الاحتلال عام 2011 في صفقة تبادل الأسرى الشهيرة، لم يضيع “أبو إبراهيم” ساعة واحدة٬ عاد إلى غزة بشوقٍ لا يهدأ لإتمام رسالته بدلاً من التفكير بما تبقى له من سنوات عمره التي حرمه الاحتلال أجملها. لم يكن الرجل يفكر في الراحة بعد رحلة الأسر الطويلة٬ بل كان مهموماً في رصّ الصفوف والإعداد الدائم لبناء فلسفة قتالية جديدة٬ عابرة للزمان والمكان٬ للحدود والجبهات. 


لم تكن فلسفة السنوار ومشروعه الطوفاني نزوة عابرة لرجل ناقم منذ طفولته على الاحتلال وقضى ريعان شبابه في السجون٬ بل كانت في جوهرها حقيقة دامغة مرعبة لـ”إسرائيل” التي حفظها عن ظهر قلب٬ في “طوفان الأقصى”٬ هذه المعركة التي وضعت دولة الاحتلال على حافة التهديد الوجودي وأصابت أسس بقاءه في مقتل.


يقول شهيدنا في (الشوك والقرنفل): “إذا تحقق عزم الرجال واستعدادهم للموت، فإن شيئاً لا يمكن أن يقف في وجههم، ولا بد للنصر أن يكون حليفهم”٬ هذه الاستراتيجية التي وضعها وعمل عليها ولأجلها٬ ولم ينتظر النتائج٬ بل ظل يعمل على الدوام ويقدم ما في استطاعته٬ فالنتائج التي آمن بها وأيقنها٬ وهي تحرير فلسطين٬ ستأتي حتماً وليس بالضرورة أن يكون مشغولاً بها٬ بل مشغول بما بين يديه٬ وهو الذي بصراع الزمن ويناظر ساعته منذ لحظة خروجه٬ حيث كان أمامه 12 عاماً فقط للاستعداد للحظة الطوفان٬ والارتحال فيها شهيداً لرب كريم.


وببأس عظيم تجاوز الحدود الجغرافيا والسياسة و”المنطق” الذي صنعه الاحتلال لنفسه وحتى في دواخل أنفسنا، فجّر السنوار أعظم معركة ستعرفها الأجيال٬ أحيا بها يحيى عزائم النفوس ومعنى التضحية٬ وأعاد بها الاعتبار لمفهوم تحرير فلسطين. ولأنها معركة عظيمة تجري فيها الدماء كما تجري الأنهار٬ كانت التضحيات أعظم وأقدس كما كل معارك التحرر التي عرفتها الشعوب المُحتلة من المستعمرين٬ وكان لا بدّ لسيد الطوفان أن يخوض غمار المعركة ويتنفس غبارها٬ حيث تقّدم الصفوف ببسالة الفرسان٬ وقاتل وضحّى حتى الرمق الأخير.


اختار السنوار أن يخرج بكامل أناقته التي أرادها يوماً٬ مرتدياً جعبته وممتشقاً سلاحه وقرآنه٬ ليقاتل في الصفوف الأمامية، رغم أنه لم يكن مُحاصَرَاً٬ بل مُحاصِراً للاحتلال، ولم يكن مضطراً إلى القتال شخصياً كقائد سياسي لحركة بحجم حماس، لكنه كان يرى أن مكان القائد هو بين جنوده، في قلب المعركة٬ وما أعظمها من خاتمة في معركة كـ”طوفان الأقصى”. 


لم يكن المشهد الأخير من الشهادة عادياً٬ بل كان كما تخيل دوماً ورأى في نبوءته: وجهاً لوجه مع العدو الذي عرفه وحفظه لعقود٬ قتال ضارٍ٬ استشهاد في ساحة المعركة بكل بسالة وشجاعة، تتردد خطوات الجنود نحوه٬ ويخشون لثامه ورصاصه وقنابله اليدوية٬ فيخرجون صرعى مرعوبين٬ ويقاتلون كعادتهم من وراء جُدر٬ فيقصفون المكان ويرسلون “الدرون” للتأكد من مقتله٬ لكن الرجل الجريح ما زال يقاتل٬ ويضرب بعصاه وجوههم٬ ومن ثم يرتقي٬ ليظل هذا المشهد الأيقوني محفور في الذاكرة الفلسطينية والبشرية لعقود طويلة٬ تتوارثه الأجيال في قصص الأساطير العظماء الذين عرفهم التاريخ.


قاتل السنوار حتى اللحظة الأخيرة من حياته، ورفض الاستسلام أو الفرار٬ بل قدماه مغروزتان في أرضه التي عشقها وأحبها كما لم يحبها أحد. وحتى في شهادته، اختار أن يكون ساخراً من الردى في مشهد أسطوري٬ اختار أن يكون رمزاً للمقاومة والكرامة٬ نداً عنيداً شجاعاً مقداماً٬ مُشبعاً بالعنفوان والبأس، كما عاش طوال حياته وعرفه العدو والصديق.


هذه مسيرة أبو إبراهيم الملحمية التي تشبه قصص الخيال٬ لكنها الحقيقة الواضحة كالشمس٬ الفاصلة في تاريخ الشعب الفلسطيني٬ الملهمة للأجيال والخالدة كخلود فعل وصنيع القسام والعياش والياسين٬ ومن سبقوه من في دار الخالدين الذين صنعوا لأنفسهم مكاناً علياً في فردوس الشهداء. واليوم، وبعد ألف  عام سيظل يحيى حياً في الوجدان٬ ورمزاً لا يتكرر، وستظل صورته كبطل وزعيم عرف نبوءته وسلك الطريق وصدق الله فصدقه٬ وضحى بحياته من أجل حرية شعبه٬ في لحظة وصفوها بـ”الجنونية”٬ لكن يعلم الله وحده حكمتها٬ وربما سنعلم حكمتها لعِظم صنيع أبطالها الذين حاش لله أن يضيع أعمالهم وتضحياتهم ودمائهم هدراً.


شارك

مقالات ذات صلة