آراء
جالسا، على الأريكة فوق أنقاض بيته، يضع قدما على الأخرى، كأنما أوتي الدنيا بحذافيرها، على رغم من فقد فيها من أحبابه ورفاقه وبيته، باسما، ضاحكا بشوشا، وقد انتصر للتو في أولى معاركه بعد توليه القيادة، ومرّغ أنف “إسرائيل” في التراب، وسار المسافة بين كلمته إلى بيته في العلن، على قدميه لا سيارة، ووسط قلة من مرافقيه، لا بصحبة جيش عرمرم، بقميصه الناصع البسيط المكويّ للتو، وهندامه المهندم، متحديا الاحتلال الذي كان يبحث عنه قبل قليل ويضعه على رأس قائمة اغتيالاته، يتحداه بأن يجرؤ على اغتياله، رجل يراهن بعمره على صحة موقفه وقوة ردعه وجبن عدوه، بالله ممَّ يتكون قفصه الصدري، ونفسه التي بين جنبيه، وقلبه الذي لا يهتز مهما تسارعت نبضاته؟
جالسًا، على الأريكة، بين جدران وأنقاض بيتٍ كان يقاوم من داخله، متعَبًا، مثخنًا في جراحه، تبدو ذراعه اليمنى كأنها مبتورة من إصابة شديدة، فيسندها إلى مسند الكرسيّ، متوشحًا بالكوفية على وجهه، حتى لا يعطي عدوه ولو معلومةً أخيرة عنه في وقت يلهث فيه العدو على صورة انتصار، يمسك بعصا، هي فسيلة المقاوم، التي لا بد أن يغرسها ولو كانت تقوم الساعة، وكانت تلك ساعته، وقيامته، فغرسها، وألقاها تجاه الآلة المسيّرة التي دخلت تتفقد المكان، وهو يعلم أنها الدقائق الأخيرة في عمره، قبل أن يقصف المبنى فوق رأسه، لينال المصير الذي لطالما كان يريده، وذهب إليه رجلا مترجلًا، يرسم صورةً عظمى لم تكن في مخيلة أقرب محبيه، ولا أسوأ كارهيه، ففوجئ الجميع بتلك النهاية التي حددها هو بنفسه، كأنه ينتصر حتى في النفس الأخير، وكأنه يسلب عدوه النصر المزيف ولو بلحظة صعود روحه، فكان منتصرًا فاغرًا فاه مغمضا عينيه، ومن يدري لعله كان يتبسم ساخرا مستبشرًا خلفها؟ وكانوا مهزومين فاغرين أفواههم ومحدقين بعيونهم حوله.
جالسًا، على الأريكة، في جنته، نحتسبه والله حسيبه، وقد ذهب إلى حبيبه وخالقه بعدما قضى عمرا طويلا يبني هلاك عدوه، ويثخن فيه الجراح، ويوقع به الخسائر، ويلقّن به الدروس، وينكّس فيه الرؤوس، ويضرب به العبر، ويلحق به أكبر هزيمة في تاريخه، ويكسر شوكته في عز خيلائه، ويمرغ أنفه في تراب غزة وأوحالها، ويقاتله على الأرض وتحت الأرض وهو لا يستطيع العثور عليه، وتستدعى لأجله أعتى مخابرات العالم، وتدور الطائرات الحربية الاستخبارية البريطانية فوق غزة مئة طلعة، وتدور المخابرات الأمريكية فوق غزة بأحدث تقنياتها ثلاثمئة وسبعين يوما، وتدور المقاتلات الإسرائيلية فوق غزة اثني عشرا شهرًا وتقتل خمسين ألف شهيد وتجرح مئة ألف إنسان وتهدم مئة وخمسين ألف بيت، وتفتش كل ذرة تراب وتستخدم كل آلة وبشر، وتسخّر كل ميزانيتها وتفكيرها، للعثور على رجل، كان يقاتلها وهو أمامها طوال الوقت، حتى استشهد مشتبكًا -قدرًا- وقد قتلته وهي لا تعرف من هو، فكأنما اختار أن يكون شبحًا يؤرقها حتى مثواه الأخير!
أرى الرجل، فينتابني شعور هيبة لا أعرف من أين بالتحديد، لأي سبب، ولأي فضل، فوق أفضال من هم في ذلك المكان والقدر، شيء مميز عن أي أحد غيره، عساها كانت هيبة الشيء الفريد، مهابة القطعة الواحدة، أنت أمام إنسان لم يخلق منه في العالم نسختان، ليس قائدًا يخلف قائدًا، ولا مقاتلا سيخلفه ذات يوم مقاتل، هو تكوين من نوع خاص، ليس مبالغة، ولا اكتشافا جديدًا ونحن نودع أبا إبراهيم، ونستودعه، وإنما كان سؤالا حاضرا منذ أول لحظة لرؤيته، وقد اعتادت الجماهير أن ترى القائد نابغة في كل شيء، قدوة في العلم والجسم، وله هندام و”برستيج” و”كاريزما” نابعون من مظهره، لكن ذلك الرجل بالتحديد لم يكن أكثرهم علمًا، فليس طبيبا ولا مهندسا كعادة الصفوف الأولى بالحركات الإسلامية، وليس أعلمهم بالشرع، فليس أطولهم لحيةً، ولا أتقنهم لغةً ولسانا، وليس أقواهم بنيةً، ولا بينةً، وإنما كانت تلكما الهيبة والمهابة نابعتان من شيء وقر في قلبه، ومن شيء لا يهدأ في صدره، كأنه يسير على جمر، ويقبض على جمر، وفي رئتيه جمر، وفي دماغه جمر، وفي عينيه جمر، لكنه كله فيض من نور لا من نار، وعلى فوران حميته، واشتداد سواعده، ووعيد سبابته، لا يخلو من برَد الإيمان، ونعيم اليقين.
كان السنوار يشبه كل أحد، ولا يشبهه أحد، كأنه موفد نبيل لغرض شريف سينقضي ثم يمضي، رجل لا يعرف المهادنة ولا المداهنة، وله هدف يراه رأي العين، لا يزيغ بصره عنه، ولم تحُل بينه وبينه قضبان سجنه اثنتين وعشرين سنة، ولم يستطع السجان أن يقتلع من عينيه ذلك الوهج الذي لا ينطفئ، ولم تقدر السنوات الطويلة على تخفيف حدة الثأر في قلبه، وتعزيز رغبة العيش، وإنما على العكس تماما، كان كل يوم إضافي في الأسر يزيد من حجم الانتقام، وإحكام الخطة، ورغبة القصاص، حتى حين خرج بوفاء الأحرار، اقتص لفلسطين كلها، ووصلت لعنته “إسرائيل” كلها بقدر ما غاصت به في الأرض من جذور خبيثة، وبقدر ما تشعبت به في الوطن من فروع نجسة، جاء السنوار فقصقصها جميعا، بإصبعيه، السبابة والوسطى.
استشهد فوق الأرض لا تحتها، ولم تكن الأنفاق يوما علامة إحجام، ولا قلة إقدام، ولا مخابئ أو ملاجئ للهروب، ولم تكن إلا شرايين في باطن الأرض يحاول ساكنوها التنفس الصعب من ترابها وطينها، كأنهم نبات يتغذى على التربة، بل إن رابط الأنفاق لوحده رابط الأشداء ذوي البأس العظام، لا يقدر عليها إلا من علم أنه يحفر فيها قبره بيديه، وعلى ذلك، لم يكن الرجل فيها بعيدًا عن الأعين يحاول الحفاظ على نفسه، وإنما ربما استدعته الحاجة إلى أن يتنقل في الميدان، ويظهر بين هنا وهناك، ويتحرك في إحدى أكثر الجبهات سخونة، ليموت كما تمنى، بجعبة عسكرية، ومسبحة، وأذكار، و”مينتوس” للنفَس الطاهر الجميل، وهو رابطٌ على يده الجريحة بسلكٍ معدني، وهو مشتبك مع عدوه، وهو رأس تلك الحركة التي غزت العدو ولم يغزُها، فأي قائد “سياسي” ذاك الذي يتحرك في “الميدان” بجعبة عسكرية، وبندقية، ومسدس؟ لقد تغير مفهوم “القيادة” إلى الأبد.
في عام 2005، كان السنوار على وشك الموت بورم خبيث في دماغه، استدعى جيش الاحتلال ومصلحة السجون لاقتياده بسرعة إلى مستشفى سوروكا العسكري، ليخضع لجراحة دماغية دقيقة، استخرج فيها الورم، وعاد الرجل بصعوبة إلى الحياة، ربما كان منذ ذلك الوقت سيموت، ربما من قبلها في الملاحقة والسجن، وربما من بعده بعد التحرير ووسط العدوانات والحروب المتتالية، وربما بمرض عضال في بنيته العادية وصحته التي ابتليت بالورم الخبيث من قبل، ربما كان سيموت بسهولة لأي سبب وقد جاوز الستين من عمره، كان سيموت سيموت، لكنه اختار الموت الذي صدق الله فيه حتى اختاره له الله، وجاءه اعتماده من الأعلى، من الرفيق الأعلى، ليضرب بآفاق عمره وأبعاد روحه، ليضرب بحياته واستشهاده، ليضرب بكل لحظة عاشها حتى اللحظة التي استرد فيها، المثلَ، الذي لم نسمع عنه إلا في سير جعفر، ومؤتة، إلا في مشاهد حضرها رسول الله أو تنبأ به، ليعيد الرجل ذلك الوصل من جديد، ويهدينا بأنفاسه الزكية الحلقة المفقودة في تاريخ مجد الأمة وطريق عزتها، ويقضي مشتبكا -لا مغتالًا- على نهج قادة قلائل للغاية، معدودين على أصابع اليد الواحدة، على طول التاريخ.