آراء

لماذا ارتبط العرب تاريخيا بالإبل؟

أكتوبر 20, 2024

لماذا ارتبط العرب تاريخيا بالإبل؟


كلمة (عرب) ترتبط فيها عدة أمور، مثل القهوة والشماغ والصحراء، ومنها كذلك (الإبل). ارتبط العرب بالإبل على مدار التاريخ، فكتبوا عنها القصائد، وأنشدوا فيها الأشعار. لكن هذا الارتباط نادر، وليس من الشائع أن يرتبط الإنسان بحيوان إلى هذه الدرجة! فما قصة هذا الارتباط؟ ولماذا يسخر منه البعض؟ فما سر هذه العلاقة الوثيقة بين الإبل والعرب؟ ومن روّج للصورة السلبية حول هذه العلاقة؟


الصورة النمطية


إن بحثت عن الصورة النمطية للإبل في أذهان الناس، ستجد أنها صورة مرتبطة بالحياة البدائية، ويتصور الكثير أنها لا تنتمي إلى عالم الحضارة، وأن ارتباطها محدود بالعرب الذين لم ينخرطوا في الحياة المدنية. تم تشويه العلاقة بين العرب والإبل بالكتابات التاريخية والأفلام الغربية. ففي فيلم (الديكتاتور) مثلاً نلاحظ خلق ارتباط صريح بين العرب الذين يركبون الجمال مع العنف والوحشية وغيرها من المفاهيم السلبية. وفي فيلم (الشيخ)، يصورون الشرق على أنها صحراء مليئة بالجمال، ومليئة كذلك بالسحر والخرافات والحياة البربرية.

 

رأي ابن خلدون


ومن الشخصيات التي كتبت عن طباع العرب، وربما صوّرت الشخصية العربية تصويرا سلبيا دون قصد، المفكر المعروف ومؤسس علم الاجتماع (ابن خلدون).حسب الباحث في الانثروبولوجيا سعد الصويان، في كتابه (الصحراء العربية)، فابن خلدون رحمه الله كان يرى في البداوة نقيضا للحضارة وضدا لها. والسبب بالنسبة لابن خلدون هو طباع البدو المتعارضة مع المدنية، فالبدو حياتهم قائمة على الترحال وصعب انقيادهم، أما مفهوم الدولة المدنية فهو قائم على السلطة المركزية من انضباط ونظام، بالإضافة إلى أن الرابطة القبلية لا تتسق مع مفهوم الدولة القائم على العقد الاجتماعي والخضوع للسلطة. وابن خلدون يقول وبالنص الصريح: “الأحوال العادية كلها عندهم (أي البدو) الرحلة والتغلب.. وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومنافٍ له..” ويضيف، بعبارات قاسية، أن البدو لا يناسبون الحياة التجارية أصلا! وبذلك يكون تجاهل معلومة تاريخية هامة يطرحها الباحث سعد الصويان، وهي أن البدو والحضر كانت بينهم علاقات اقتصادية وتبادلات تجارية، وعلاقتهم تكاملية وليست صراع بين طرف وحشي وطرف مدني! والبدو بتعريف ابن خلدون هم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة.. ومن يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر والطين والحجارة..


وبهذا التعريف يشمل حتى الفلاحين المستقرين في قراهم الزراعية. أما الحضر، بتعريف ابن خلدون، هم أهل المدن والعواصم.. ومن يمتهنون التجارة والصناعة.. ومن بلغوا الغاية في الغنى. يرى سعد الصويان أن هذه تصورات تفتقد إلى الدقة، وتغفل عن جزء كبير من تاريخ العرب.

 

علاقة الإبل بأهل الصحراء


التصورات السلبية عن الإبل والعرب تدفعنا لفتح ملف هذه العلاقة والبحث في جذورها التاريخية. بدأت علاقة الإبل بالعرب قبل عدة قرون، فكانت العرب تستفيد من لحم الجمل في الألفية الرابعة قبل الميلاد. بعدها أصبحت الاستفادة أكبر، وصاروا العرب يرعون الإبل، ويستفيدون من الحليب والصوف، وذلك في الألفية الثانية قبل الميلاد. وفي مراحل متأخرة، تطورت العلاقة أكثر، وصارت الإبل تُستخدم للركوب والتنقل، وتم ترويضها وتدريبها على حمل الأثقال. هذا الترويض أسس رابطة وثيقة بين العرب والإبل.. لأنهم استخدموه للتنقل السلمي في البدايات.. لكنه أصبح يُستخدم لأغراض حربية فيما بعد!

 

ماذا يقول علم الآثار؟


لذلك تشير النقوش والآثار، أن العلاقة بين الإبل والعرب قديمة، منها نقش فيه كلمات مثل “جمل” و”إبل” و”ناقة”.. هذا النقش خلّد انتصار الملك الآشوري شلمناصر الثالث في معركة خاضها عام ٨٥٣ قبل الميلاد وقعت في شمال حماة. واجه الملك الآشوري عدد من الحلفاء.. منهم ملك دمشق الآرامي (هاداديزير).. ومن الأسرى في هذه الحرب جندب العربي.


الذي أخذ منه الملك الآشوري ألف بعير! هذا النقش فيه الكثير من العبارات العربية التي وثّقت علاقة الإبل والعرب، وبعد هذه الحادثة، وفي الفترات الأخيرة من حكم الآشوريين، استخدموا الإبل وحاولوا تسخيرها لحمل الأثقال والمعدات وجعلوها وسيلة لنقل الماء والطعام للجنود. ولكن النقوش والآثار تشير إلى أنهم لم يجيدوا التعامل مع الإبل، وكانوا يستعينون بشيوخ العرب وقت الحاجة! وتمكنوا بقيادة ملكهم (إسراهادون) سنة ٦٧١ قبل الميلاد، من عبور مفازات الصحراء المهلكة لغزو مصر، وهذا كان بمساعدة العرب، المتمرسين بركوب الإبل.

 

ترحال العرب


هذه الرابطة الوثيقة منحت العرب ميزة غلبوا فيها حضارات عظمى وهي ميزة التنقل والحركة والحرية. تخيل أن ممالك السومريين والبابليين والفرس والرومان يئست من إخضاع العرب لكثرة تنقلهم. اضطرت هذه الممالك إلى مهادنة العرب والتقرب منهم وجعلتهم يحمون الحدود والمنافذ والطرق التجارية، وبعض العرب أصبح قائد عسكري ضمن جيوش بعض الممالك لخبرته الطويلة في التنقل. فصحيح أن عدة حضارات اعتنت بالإبل واستخدمته للتنقل، لكن الذي يميّز العرب أنهم روضوه ودربوه، وأصبح جزء لا يتجزأ من حياتهم وثقافتهم وتراثهم.

 

مكانة الإبل في الإسلام


هذه الرابطة الوثيقة بين العربي والإبل لها بُعد إسلامي كذلك. وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع.. منها: «اَفَلا يَنْظُرُونَ الَى الاِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَاِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَاِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَاِلَى الاَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» (الغاشية: 17- 20) جعلها سبحانه موضع للتأمل والتدبر، ففي خلقها إعجاز وإتقان. أما في السنة النبوية، فالنبي ﷺ أوصى بالاهتمام بالإبل: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظَّها من الأرض، وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا عليها السير) وورد كذلك عنه ﷺ: (لا تسبوا الإبل فإن فيها رقواء الدم ومهر الكريمة).. فالإبل تُعطى في الديات.. وتُحقن بها الدماء.. بل أن النبي ﷺ كلّم الإبل.. ففي يوم من الأيام وقف النبي ﷺ فقال: “أين صاحب هذا البعير؟”.. فجاء وقال: “بعنيه”.. فقال: “لا، بل أهبه لك، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره”.. فقال ﷺ: “أما إذا ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرة العمل وقلة العلف، فأحسنوا إليه”. (رواه أحمد). أما في ساحة الميدان، فقد رافقت الإبل جيوش المسلمين في غزواتهم ومعاركهم، وكانت وسيلة الركوب والنقل في تلك الأيام العظيمة. هذا الإرث الإسلامي يزيد من ارتباط العربي المسلم بالإبل ويرفع من قيمتها أكثر.

 

الخاتمة


رافقت الإبل الإنسان العربي منذ القدم، فدخلت معه الحروب، وقطعت معه المسافات.، وأصبحت مصدر الرزق، وموضوع القصيدة، وأنيسة الدروب، ووسيلة الحرية.. ورغم الصورة النمطية السلبية السائدة حول هذه العلاقة، والتي صنعتها بعض الكتابات والأفلام.. إلا أنها أوثق علاقة دوّنها التاريخ بين الإنسان والحيوان.


شارك

مقالات ذات صلة