مدونات
الكاتبة: فاطمة الزهراء سحنوني
الموت هو رادع البشر الأكبر منذ بدء الخليقة، ومعضلتهم الأولى، وامتحانهم الذي لم يستطع أحد أن يغير شيئا من نتيجته، أو أن يتحكم في موعد حضوره وغيابه. سيادته على الخلائق مطلقة، كاملة، والاختلاف الوحيد يكمن في الطريقة التي يقتحم بها حيوات الناس. وهو أمر لم يتقبله البشر تماما، وإن سلَّموا بحتميته ظاهريا إلا أنَّ القلق الناتج عنه قائم دوما، كلٌّ يتعامل معه حسب خلفيته ومعتقداته، وفي الغالب يُجابه بالتغافل والهروب.
ونجد في التاريخ قصصا لمن رفضوا حتميته فاختاروا الانتصار عليه بالانتحار، في محاولة وهمية لفرض اختيارهم وقراراتهم والاحتجاج على غموض موعده. وإن كان التعامل مع فكرة الموت محلَّ خلاف، فالاتفاق الوحيد بين جميع الأجناس والخلائق هو حول ما يخلفه من آلام الفقد، وفواجع البقاء دون الأحبة. وهي عين المصيبة لدى كل الناس، فالموت يلسع خواصر الباقين، لا من غادروا. وتتفاوت شدَّته حسب معتقدات الشخص، ومدى تعلقه بالمفقود وقربه منه، ومدى صلابته النفسية.. ومفترق الطرق الكوني هذا الذي جعل لكلِّ لقاء فراقا، وسنَّ لكلِّ بداية نهاية، ولكلِّ دفء ناجم عن الاجتماع، بردا قارسا ناتجا عن الافتراق، أوقع كثيرا من البشر في قبضته، فعجزوا عن النهوض مجددا، وأصبحوا فرائس طازجة للعلل النفسية واليأس من الحياة. وفي زمننا هذا يتربع ” الاكتئاب ” على رأس القائمة.
وكان للبشر سعي أيضا في مواجهة هذه الأزمة، فعلماء النفس لم يقصروا في تأليف الكتب، وإيجاد طرق علاجية تعين الواقعين في شراك الفقد على كيفية التعامل معه والخلاص منه ومواصلة الحياة. فلدينا مثلا نموذج كوبلر روس الذي يقدم مراحل يمر بها الشخص الذي يعاني ألم الفقد، وهي خمسة: الإنكار، الغضب، ثم المساومة ثم الاكتئاب، وأخيرا القبول. تحصل دون ترتيب، وقد يمر بها الشخص كاملة أو بالبعض منها فقط. وقد انتُقد كثيرا من طرف الأخصائيين، وهو ليس النموذج الوحيد. فمثلا عالم النفس جي ويليام ووردن يقدم طريقة لفهم عملية الحزن، يسميها ب: 4 مهام للحداد. وهي مهام يقوم بها الشخص الفاقد دون ترتيب معين، تعينه على تجاوز الأزمة بأقل الخسائر، وتتمثل في: أولا، قبول حقيقة الخسارة، والعمل على الحضور الذهني والتركيز مع الواقع لاستيعابه. ثانيا، محاولة التكيف مع عالم خال من الفقيد، أي التعايش مع الفراغ الذي يخلفه. ثالثا: العمل على إيجاد علاقة دائمة مع المتوفي تحقق توازنا في الحياة بين الحفاظ على ذكراه ومواصلة الحياة. رابعا: معالجة مختلف ألوان الحزن التي تجثم على الروح، وتغذيتها معرفيا وسلوكيا. بالإضافة إلى جهود المتخصصين على مر التاريخ، نجد أيضا للأديان دورها المركزي في التعامل مع هذه القضية، إذ لطالما كان العامل الرُّوحي متَّكأ ثابتا في حياة البشر يوجه أفكارهم، ويساهم بقدر عال في صناعة عقلياتهم وضبط سلوكياتهم.
وفيما يتعلق بالفقد والموت، فقد التجأ البشر كثيرا إلى الجانب الدِّيني ورموا أحمالهم على معتقداتهم الإيمانية لتخفف من وطأة الأسى واليأس والاشتياق. ولعلَّ فكرة الخلود الأبدي بعد الموت التي آمن بها الفراعنة فأبقوا جثث موتاهم سليمة وحنطوها، وآمن بها المسيحيون أيضا وإن تغيرت فلسفتهم بمرور الزمن محاولة غير مباشرة لضمان لقاء متجدِّد بالفقيد ولو بعد حين يبنِّج مواضع الألم في القلب أو يخفف منها. وهذه الفكرة يبني عليها الدين الإسلامي عقيدته فيما يتعلق بما بعد الموت. فالجنَّة هي المأوى الذي أعدَّه الله تعالى لعباده، يتجدَّد فيها لقاؤهم ببعضهم، وعيشهم معا بضمان للخلود وللسعادة ومختلف أصناف الملذات وأشكال الراحة. ويشترط لتحقق ذلك وبلوغه شرط الإيمان والتقوى والعمل الصالح الذي أقرته الشريعة.
إذا، فهذا المعتقد يعدُّ وقودا مُركَّزا يثبت المسلم أمام عاصفة الفقد، في حال تسلحه بالإيمان اليقيني بذلك، ويمحي جزء كبيرا من وطأة الحيرة حول هذا الموضوع والذي تتخبط بسببه شعوب وأمم. وقد اتَّضح هذا الأمر جليا في الاعتداءات الوحشية على غزة من طرف النازية الصهيونية خلال هذه السنة. فانبهار العالم بصبر الغزيين وثباتهم أمام فقد العشرات من أهلهم نابع أساسا من هشاشتهم تجاه الفقد، وفقدانهم لجدوى الحياة من الأساس، وضياعهم الفكري والروحي والقيمي، وبالتالي انعدام أي ضمان أو سلوان يقويهم على احتمال الفاجعة.
إضافة إلى أن اعتقاد وجود حساب أخروي وجنة يجتمع فيها الأحبة، ونار يجتمع فيها أهل الفساد والشر تمنح الفاقدين سلوانا رسميا مؤكدا وفعَّالا، يبين لهم أن هذه الحياة مجرد مسار سباق لا بدَّ أن يسبق البعض فيه وينتقلوا إلى المراحل الأخرى، ولا بدَّ أن يلحقهم من تخلَّفوا لتفاوت آجالهم.