مدونات

ابن خلدون: العزلة سر الإبداع

أكتوبر 14, 2024

ابن خلدون: العزلة سر الإبداع


ابن خلدون رجل من أعلام الدنيا، قال عنه لسان الدين ابن الخطيب “إنه مفخرةٌ من مفاخر التُخوم المغربية ([1])، نشأ في بيت علم ودين كان أول تلقيه العلم على يد والده، ثم جلس إلى مشايخ تونس التي كانت تعـــج بالعلماء؛ فكانت محط استقرار علماء الأندلس الذين شتتهم حادثات الزمان، تعلم ابن خلدون حسب المنهج المتبع في البلدان الإسلامية آنذاك، حفظ القرآن وجوده بالقراءات السبع، درس العلوم الشرعية وأصول التوحيد، ونحو العربية، صرفها، بلاغتـها والأدب والأخبار، الرياضيات، العلوم الطبيعية والفلسـفة؛ تكونت لديه ثقافة موسوعية، كان محباً للترحال، عالي الهمة، خليقا بالإعجاب جديرا بالإعظام، لا يقعد عن المعالي أنَّى كانت، ولا يرضى بخمول الذكر والدعة، كان متنقلا بين دروس العلم وحلقاته، مكبًّا على التحصيل حريصًا على الفضائل. اتصل بالنخب السياسية وصاحب السلاطين والأمراء؛ تقلب بين الوزارة والحجابة، والقضاء، والخطابة، والتدريس والسفارة، عرف نعيم القصور وذل السجون، تنقل بين بلاد المغرب والأندلس ومصر، علا به الزمان وهبط، ومن المفارقات العجيبة أنه لم يتلق من معاصريه ما هو أهل له من الإكبار، وقد كان حقيقًا بالحفاوة والتكريم، لكنه لم يلق إلا الدسائس والمكائد، وقد لقي الاحتفاء كله ـــ بعد زمن ــــ من الغربيين والمستشرقين الذين قدروه حق قدره؛ كان لهم السبق في التعريف به، والانشغال بمقدمته، وبيان قيمة فلسفته وفكره للعالم، حتى درست في أرقى الجامعات والمؤسسات الأكاديمية. قدر لابن خلدون أن يعاصر طاعونًا في صغره ويعاني الفقد، إذ توفى والداه وكثير من أساتذته، طاعون أهلك الحرث والنسل، وقد قدر له النبوغ في خضم الصراعات والاقتتال على الملك؛ وفي خضم المؤامرات والدسائس التي تحاك في الأمصار الإسلامية بعد أن أصبحت الدولة العباسية أثرًا بعد عين، فأهل السياسة يقتل بعضهم بعضًا، ولا يقدرون العلم والعلماء، وتيمور لنك في أوج قوته يجتاح العالم الإسلامي، والأندلس في قبضة الأسبان “وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة ([2])”.


ومع كل ذلك.. ثابر ورابط على طلب العلم حتى كان مجلسه الأول للتدريس في القاهرة، شهد المجلس جمهرة من العلماء والأكابر والأمراء، وقد “استوطن القاهرة وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة واشتغل وأفاد([3])”


ألقى في مجلسه الأول خطاباً طويلاً في فضل العلم والعلماء؛ لشد أزر الدولة الإسلامية بعلمائها، ثم يقول “انفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار وتناجت النفوس بالأهلية للمناصب([4])”، جلس للتدريس والإقراء في الجامع الأزهر تتلمذ على يده علماء أشهرهم: مؤرخ الديار المصرية تقي الدين المقريزي.


شغل ابن خلدون منصب قاضي قضاة المالكية في مصر؛ وقد لقي ما لقي من الأذى خلال عمله؛ فكان يدفع السيئة بالحسنة قدر وسعه، ترجم لنفسه في كتابه التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، تكلم فيه عن معاناته مع حاسديه ومنافسيه، وصبره على ضجيج الدسائس وطبائع الناس وسوء أخلاقهم..


إِنَّ الجدِيْدَيْنِ فِي طُوْلِ اخْتِلَافِهِمَا لَا يَفْسُدَانِ وَلَكِنْ يُفْسُدُ النَّاسُ[5]


ابن خلدون رجل من نوادر الدنيا، “نسيج وحده في عالم العبقريات[6]“، تشهد له مقدمة كتابه: “كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم منذوي السلطان الأكبر” فلم يترك شاردة ولا واردة من علم إلا وأحاط به في مقدمته؛ وتلك المقدمة التي ملأت الدنيا، ويتساءل الدارسون عن عبقرتيها، لم يستطع ابن خلدون أن يخطها مع لغط الحاسدين وضجة الناقمين ودسائس الكارهين، ولا مع صخب الناس وضجتهم، وأنى لذهن الإنسان أن يصفو إلا في خلوة يتفيأ ظلالها فيصفو ذهنه ويروق عقله؟


أَنِسْتُ بِوَحْدَتِي وَلَزَمْتُ بَيْتِي   فَـــــدَامَ الأُنْس لِي وَنَمَى السُّرُورُ
وَأَدَّبَنِي الزَّمَانُ فَلَا أُبَالِي   هُــــــــــــجِرْتُ فَــــــلَا أَزَارُ وَلا أَزُورُ
فَلَسْتُ بِسَـــــائِلٍ مَا دُمْـــــــــــــتُ حَيًّـــــــــــا        أَســـــــارَ الْجُنـــــــْدُ أَمْ رَكِــــــــــــبَالأمــــــــــِيـــــــرُ[7]


 خط ابن خلدون كتابه في عزلة بقلعة بعيدة في منطقة تاغورت الجزائرية، انسحب من الحياة العامة انقطع عن ضجيج الناس، ومكائدهم، قضى ابن خلدون في قلعة ابن سلامة أربعة أعوام كاملة بمعزل عن السياسة والسلاطين، وبمعزل عن الاختلاط والشتات والقلق، اشتغل في عزلته على كتابه وتفرغ له، واعتزل لينعم بصفاء الذهن ويبتعد عن الصخب، في مكان هادئ جميل حيث عين ترنو لسحر الطبيعة، وصدر يمتلئ من هواء لا تكدره أنفاس الخلائق، يقول ابن خلدون عن عزلته في القلعة: “أقمت بها أربعة أعوام متخلياً عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة من على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتاجها ([8])”.


العزلة ديدن كثير من أهل العلم، وسر الإبداع قد يكون في البعد عن اللغو واللغط، فاجعل لنفسك حظًا من خلوة وعزلة تغتنمها في العزائم وطلب المعالي، وقد أسفرت العزلة في تاريخنا عن علم جم وفير ونتاج عظيم، فقد سبق ابن خلدون إليها أبو العلاء المعري، فلم يقنع بمحبس الظلام حتى أضاف عليه محبس العزلة، والغزالي صاحب إحياء علوم الدين، اعتزل خمسة أعوام ليكتب لنا سفر الإحياء، ومن بعد جلال الدين السيوطي، فقد اعتزل الحياة العامة والإفتاء والتدريس ولزم بيته ووألف على إثر عزلته رسالة “التنفيس في الاعتذار عن ترك الإفتاء والتدريس”.


“ومن مناقب العزلة أنها خالعة عنك ربقة ذل الآمال وقاطعة رق الأطماع ومعيدة عز اليأس منالناس فإن من صحبهم وكان فيهم ومعهم لم يكد يخلو من أن يحدث نفسه بنوع من الطمع فيهمإما في مال أو جاه والطمع فقر حاضر وذل صاغر[9]” وقد أورد الخطابي في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب قال: خذوا بحظكم من العزلة.


وفي (حديث أبي سعيد في الصحيحين) قال: قيل يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: رجلٌ يجاهدبنفسه وماله ورجلٌ في شعبٍ من الشعاب يعبد الله ويدعُ الناس من شره، وقال رسول الله[10]ﷺ: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن».


هوامش:

[1]  الإحاطة في أخبار غرناطة ص 397:3

[2] مقدمة ابن خلدون، ج1، ص325

[3]  المنهل الصافي ابن تغري بردي

[4] التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا ص 285 دار الكتاب اللبناني

[5] الخنساء، ديوان الخنساء

[6] مقدمة ابن خلدون تحقيق د. علي عبد الواحد وافي ص 25

[7]

[8] التعريف ابن خلدون ورحلته شرقاً وغربا ص 229

[9] فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب ١٠/‏٣٨٦ ــ محمد نصر الدين محمد عويضة

[10] رواه البخاري

شارك

مقالات ذات صلة