سياسة
منذ بداية الصراع مع الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية في مطلع القرن العشرين، تشكلت هوية الشعب الفلسطيني التي عرفناها ونعرفها حتى اليوم٬ بعدما فهم شعبنا أن مقاومته ليست مجرد رد فعل على احتلال الأرض، بل هي واجب وجودي تُرجم في الدفاع عن كينونته وهويته منذ الإضراب الكبير عام ٬1936 بعدما بث شيخ جليل قادم من ساحل الشام يدعى عز الدين القسام روحاً ثورية عنيدة سيظل يرثها الفلسطينيون جيلاً بعد جيل٬ وستتسمى باسمه كتائب من المقاتلين أولي بأس شديد٬ سيذيقون العدو الموت الزؤام ويملؤون أسماع الدنيا.
ورغم المأساة الكبرى في النكبة التي قاتل فيها الفلسطينيون ومن معهم بما كان بين أيديهم من إمكانات، لم يتخل هذا الشعب عن روح المقاومة٬ فمن في مخيمات اللجوء، ومع شعور العجز والقهر٬ انطلقت الثورة الفلسطينية في منتصف الستينيات٬ حينما كان يدرك رجالات تلك المرحلة أن القضية الفلسطينية لا تُحسم إلا بالكفاح المسلح.
في عام 1987، شهد العالم الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي مثّلت قفزة نوعية في مفهوم المقاومة الشعبية الفلسطينية٬ وتجلت الهوية الجمعية الفلسطينية بوضوح٬ فكان التمرد على المحتل يتصل من شوارع قرى الضفة الغربية إلى أزقة مخيمات قطاع غزة، تجسيداً حياً لروح المقاومة المتقدة المتجددة. الأطفال الذين رشقوا جنود الاحتلال بالحجارة، والنساء اللواتي وقفن في وجه الدبابات، والعمال والتجار الذين أضربوا عن العمل واشتبكوا مع عدوهم، كلهم حملوا روح المقاومة التي أظهرت للعالم بشكل جليّ أن هذا الشعب لا يمكن قهره أو ترويضه ولو بعد عقود من محاولات تطبيع الواقع مع الاحتلال.
لم تكن المواجهة في الانتفاضة متكافئة من حيث العدة والعتاد، لكن روح المقاومة كانت سلاح الفلسطينيين الأقوى٬ ورغم محاولات الاحتلال قمع هذه الروح بوحشية وتكسير العظام، إلا أنه لم يتمكن من كسر إرادة الشعب الفلسطيني٬ لكن انتفاضته العظيمة اخمدت بـ”أوسلو”٬ حيث سار الجميع في التيه الذي سيضيع المنجزات ويطيل في عمر الاحتلال ثلاثة عقود أخرى.
إلا أن ثلة من الرجل رفضوا المسير مع التائهين٬ ورفعوا لاءاتهم في وجه الجميع٬ ببصيرتهم المباركة التي أيقنت عواقب “السلام”٬ وأن لا زوال للاحتلال إلا بسبيل واحد ثمنه الدم والتضحيات الجسام٬ حيث نفخ في روح المقاومة هذه المرة شاب سار على درب القسام٬ وأطلق ثورة من العمليات الاستشهادية التي ستزلزل المحتل وتفقده أمنه الزائف٬ وتجعله يفكر ولأول مرة بأن هذا المشروع خاسر وأن الهجرة العكسية خيار مطروح على الطاولة بعدما كان مجرد التفكير به خيانة لـ”مشروع الآباء المؤسسين”.
قاد المهندس يحيى عياش ومن حوله حالة نضالياً شكّلت من بعده مصدر إلهام كبير لجيل كامل من المقاومين٬ وتمكنوا من حمل الراية في الانتفاضة الثانية التي كانت أكثر شراسة وبأساً من الانتفاضة الأولى٬ فقد واجه الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي بكل ما يملكونه وما يستطيعونه من الإعداد٬ وردوا على اجتياح المدن وقصف المنازل وارتكاب المجازر بجحافل العمليات الاستشهادية التي زلزلت قلب الكيان٬ وكمائن الموت على الطرقات٬ حتى جعلته يفكك مستوطناته من غزة وشمال الضفة صاغراً.
تراكمت قوة المقاومة جيلاً بعد جيل بأنهار من التضحيات الجسام٬ وحملت غزة روح المقاومة٬ وخاضت الحروب مع العدو وأدمت وجهه في كل نزال٬ حتى جاء الطوفان الذي ضرب مفهوم البقاء لدى الاحتلال٬ وأفقدته ذاته وعقله٬ وجرف معه كل نظرياته الأمنية٬ وخرّت “أسطورة الجيش الذي لا يقهر” مع أولى ضربات الياسين في الجدران الفاصلة صباح السابع من أكتوبر٬ ودخلنا عليهم الباب الذي سيفتح بعده أبواباً لن تنتهي قريباً.
جن جنون الاحتلال٬ وأخذ يضرب في غزة بالحديد والنار والدمار٬ وأخذ يثأر لنفسه بالضفة والسجون إجراماً وتنكيلاً٬ محاولاً يائساً كالدب الجريح استعادة هيبته التي مزقت تحت أقدام المقاومين في ذلك الصباح٬ ومنذ ذلك الحين جرت أنهر من الدماء ها هي تصب من شمال غزة إلى جنوب لبنان٬ لكن الاحتلال الفاشل المرتعد الذي يخوض معركته اليوم كأنه يخوض يومه الأخير٬ فشل مجدداً في الانتصار الدماء٬ وصدم مجدداً بصخرة الصمود الفلسطيني وروح المقاومة العنيدة التي تسري في عروق أكبر شيخ وأصغر طفل على هذه الأرض.
هذه الروح تغذيها عدالة هذه القضية وقدسيتها والإيمان العميق بها وبوعد الله فيها٬ تغذيها الثارات ودماء الشهداء وعهود التحرير التي قطعناها لله على أنفسنا صغاراً٬ وتوارثناها عن آبائنا وأجدادنا٬ ونورّثها اليوم لأطفالنا وحتى أحفادنا إن استطعنا٬ ستظل متقدة كالنار٬ عصيّة على الهزيمة أو السحق أو التدمير٬ مهما بلغ علوّ عدونا وجبروته.
ومن ثورة عز الدين القسام وحتى طوفان الأقصى، تتجلى روح المقاومة على هذه الأرض٬ تستطيع دولة الاحتلال بقوتها العسكرية وطغيانها اللذان لم يكونا لولا الدعم الغربي اللا محدود، أن تنكّل في الشعب الفلسطيني مرة واثنتين وثلاث وأربع٬ وأن تسحق عظامه وتحيل أجساد شبابه وأطفاله لأشلاء٬ لكن كل ذلك لن يكون كافياً لإخضاع الفلسطينيين أو تحويلهم لأقليات مروّضة كما فعل الغزاة البيض مع غيرنا من الشعوب الأصيلة٬ لأن هذا الشعب العظيم يملك روحاً عجيبة أكرمه الله بها٬ تحيل المستحيل إلى واقع٬ والحلم إلى حقيقة٬ تفرض بـ”الخاوة” الزوال على المحتل الطارئ.