تبدأ القصة في أحد مواسم سوق عكاظ، حيث كانت تُنصب للنابغة الذبياني -إمام الشعراء وحكمهم- قبة حمراء من أدم (أي من جلد) في السوق. وكان الشعراء يتوافدون من كل فج لإلقاء قصائدهم ليُفاضل بينهم ويحدد الأبلغ في نظم الشعر والأحذق في صياغة الكلام، معتمدا على نقد دقيق لعناصر البيت الواحد وتفاصيله، فينتهي بقوله أن فلان أشعر من فلان دون أن ينقص من الطرف الآخر أو يسلب منه عباءة الشعر.
بلغ مسامع حسان بن ثابت هذا الأمر، وكان معروفا منذ نعومة أظفاره بخطابته التي لا يُجارى فيها، فقد كان طفلا يُحب الجلوس مع الشعراء وحفظ أبياتهم حتى صار يُلقي الشعر الوفير وأصبح رجل منبر. فقرر أن يذهب أيضًا إلى الموسم بغية الاحتكام.
اجتمع حسّان مع باقي الشعراء عند النابغة الذبياني، فأنشده الأعشى أبو بصير، ثم أنشده حسّان بن ثابت، ثم باقي الشعراء، ثم جاءت الخنساء فأنشدته، فقال لها النابغة: “واللّه لولا أنّ أبا بصير أنشدني آنفا لقلت: إنّك أشعر الجنّ والإنس”. فلم يعجب قوله حسّان بن ثابت واستنكر هذا الأمر وقال إنه أشعر منهم جميعا، فقبض النابغة على يده، ثم قال:” يا بن أخي، إنك لا تحسن
أن تقول مثل قولي: فإِنَّك كاللَّيلِ الّذى هو مدركي .. وإِنْ خِلتُ أَنّ المُنتَأى عنكَ وَاسعُ”.
اختلفت الروايات حول نقد أبيات حسان بن ثابت، فمنهم من نسب النقد إلى الذبياني نفسه، وهو الرأي الأشهر في كتب الأدب، بينما يرى آخرون أن الخنساء هي التي قامت بذلك، وهو ما نقل السكاكي في كتابه “مفتاح العلوم” حيث نقدت الخنساء أبياته التالية والتي كانت جزءا من قصيدته التي ألقاها على الذبياني:
لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بالضُّحَى.. وأسيافُنا يَقْطُرنَ من نَجْدةٍ دَمَا
ولَدْنا بني العَنقاءِ وابنَي مُحَرِّقٍ.. فأَكرِمْ بنا خالًا وأَكرِمْ بنا ابنَمَا
أي فخر يكون في أن له ولعشيرته ولمن ينضوي إليهم من الجفان ما نهايتها في العدد عشر، وكذا من السيوف ألا أستعمل جمع الكثرة الجفان والسيوف وأي فخر في أن تكون جفنة وقت الضحوة وهو وقت تناول الطعام غراء لامعة كجفان البائع أما يشبه أن قد جعل نفسه وعشيرته بائعي عدة جفنات، وفي رواية أخرى، أنها سألته عن أجود بيت في قصيدته التي عرضها، فأنشد حسان بن ثابت قوله السيار (الأبيات التي ذكرت سلفا)، فقالت له إنه ضعّف افتخاره وقلله في سبع مواضع: قلت: “لنا الجفنات”، والجفنات دون العشرة، أي قللت العدد، ولو قلت: “الجفان” لكان أكثر. وقلت: “الغر”، والغرة (بياض في الجبهة)، ولو قلت “الغر البيض” لكان أكثر اتساعًا. وقلت: “يلمعن”، واللمع شيء يأتي بعد شيء. ولو قلت: “يشرقن” لكان أكثر، لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت: “بالضحى”، ولو قلت “بالدجى” لكان أكثر وقعًا وتأثيرًا. وقلت: “أسياف”، والأسياف ما دون العشرة، ولو قلت “سيوف” كان أكثر. وقلت: “يقطرن”، ولو قلت: “يسلن” كان أكثر. وقلت: “دما”، ولو قلت: “دماء” كان أكثر.
نالت الخنساء لقب أشعر النساء عن استحقاق لا يرقى إليه شك، استحقاق بعيد عن أي نوع من أنواع المحاباة. وإذا ما تأملنا في مسألة المحاباة هذه بعين المنطق، نجد أن حسان بن ثابت والذبياني كلاهما من اليمن ومع ذلك لم يكن لهذا الأمر ثقل في ميزان التحكيم ، ففي الشعر لا روابط و لا وشائج تشفع، ولا مكان للانحياز أو المحاباة في نظم الكلام.