سياسة

دراسة حالة: أمّ القرى أم حافةُ الهاوية؟ إيران في مواجهة إسرائيل!

أكتوبر 10, 2024

دراسة حالة: أمّ القرى أم حافةُ الهاوية؟ إيران في مواجهة إسرائيل!


تَبْرعُ إسرائيل في التكتيك العسكري.


تمهلوا قليلا يا سادة فإن براعتها لا تدوم أبدا، وإلا استقام لها احتلال الأراضي الفلسطيني ليصبح استعمارا رغم مرور كل هذا الوقت. تتوقف تلك البراعة المزعومة بعد هجوم نوعي هنا أو قصف هناك أو توغل بري هنا أو تفجير عن بعد هناك. الشاهد أن إسرائيل لم يستقم لها الحال منذ نشأتها بسبب تفاعلات متراوحة أعادت بسببها النظر في خططها الاستراتيجية على مر السنين. فالانتصار الذي حققته الفصائل منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ بخسارة بشرية فلسطينية فادحة، صُدِّر للبنان وسورية والحديدة في اليمن، وفقا لمسار تحفظه إسرائيل عن ظهر قلب وتقتفيه كالحرباء على كل لون. هذا الخط ليس محض صدفة أو لفتح جبهات مختلفة دون وعي أو بسبب خلل.


إسرائيل وسياسة حافة الهاوية


تعمل إسرائيل عن قصد بفتح كل الجبهات في آن معا في غزة والضفة ولبنان وسورية والعراق واليمن، لاستفزاز إيران لتشتبك في صراع شامل. يتحقق لإسرائيل هدفها برعاية غربية أمريكية بالتحديد في محاولة لجر إيران بدعم التواطؤ العربي وتدجين محور التطبيع. المقصود أمريكيا استنزافُ إيران وضربُ المصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد فشل المشروع الأمريكي في العراق بعد الغزو وتغوّلِ الفصائل الموالية لإيران في العراق وسورية عسكريا وسياسيا بعد ٢٠٠٣ وإبان الحرب في سورية ٢٠١٢-٢٠١٧.


عطل الغزو الأمريكي للعراق ٢٠٠٣ تفعيل نظرية أم القرى، كذلك فعلت الضربات الإسرائيلية على فصائل المقاومة الفلسطينية منذ ٢٠٠٨.  استعادت إيران توازنها بعد الحرب التي حُسمت لصالح حزب الله في لبنان ٢٠٠٦ والخلاف بشأن تورط الحزب على غير رغبة الدولة اللبنانية في سورية. اللافت أن المبادرات العربية وأقطاب ومراكز القوى في المنقطة رفعت – باستثناءات – إيران محل إسرائيل كعدو أول، بل وعملت الإمارات، رأس حربة التطبيع على شيطنة منهجية للفلسطينيين وفصائلهم لتعطيل مشروعي الإسلام السياسي في المنطقة ممثلا في الإخوان المسلمين من ناحية والفصائل الشيعية الموالية لإيران من ناحية أخرى.


التصعيد الإيراني الإسرائيلي ليس الأول


الاشتباك المتمثل في الرد والرد المضاد بمناوشات محسوبة من قبل إيران امتدت على مدى ما يقارب الربع قرن، تعاظمت في أكتوبر تشرين الأول عام ٢٠٢٣ وبداية ٢٠٢٤ بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية بعملية طوفان الأقصى ومواجهات امتدت وتشعبت في العراق وسورية ثم اليمن.  كبدت حماس بانتصارات مدوية في عمليات (المسافة صفر)  إسرائيل خسارات فادحة في العتاد والأفراد، على الرغم من الكلفة البشرية الهائلة بين الفلسطينيين  إذ أقدمت إسرائيل بكامل عنفوانها على جرائم الحرب والإبادة الجماعية.


تبنت إيران منذ سنوات استراتيجية الهجوم للأمام أو الدفاع الهجومي، وهي فلسفة التزمت بها كي لا تجر الحرب إلى أرضها واستبدال الحرب التقليدية الشاملة مع إسرائيل بالدفع بالوكلاء لها قي المنطقة دون خسائر تحسب عليها. من هذا المنطلق جاء الثقل العملياتي لإيران مثلا في دور حزب الله في سورية، والميليشيات الموالية لها في العراق واليمن. بهذا تكسب إيران أرضا وحلفاء ولا تخسر شيئا أمام شعبها إلا من العقوبات المفروضة عليها والتي تبرر لها بسردية ”واجب المقاومة“ لإخفاء خسائرها إن وجدت.


نظرية أم القرى


فعلت إيران نظرية أسست لها قبل غزو العراق في عام ٢٠٠٣ بفترة ليست بالهينة، تقوم على إيجاد ومد طريق يمثل ممرا بريا يمتد داخل دول تستقطب فيها طهران حلفاء وكيانات أسستها حتى سواحل البحر المتوسط. لو استحضرتم خرائط المنطقة قبل نهاية الألفية الحالية، سترى بوضوح امتداداً عدة لإيران في العراق وسورية انتهاء بلبنان. لكل من هذه الدولة مصالح وحلفاء وكيانات عسكرية وشبه عسكرية، خاصة بعد الحرب في سورية منذ ٢٠١٢. اقتفاء إيران موجات التصعيد بين حلفائها أو فصائل ترتبط بها من جهة وبين القوات الأمريكية والإسرائيلية من جهة أخرى، يحيي جذوة ما كان يسمى محور الممانعة في سورية والعراق ولبنان، وانضمت له أنصار الله الحوثية في خليج عدن واليمن. الهدف الحقيقي من رسم هذا الممر البري هو التمدد في عمق إيران الاستراتيجي. عادة ما يتعامل الزملاء مع مصطلح ”العمق الاستراتيجي“ في مواضع لا تنطبق عليها الكلمة. بتتبع مسار إيران إقليميا، يمكننا تفسير السلوك الإيراني في هذه اللحظة، والمختلف عليه بدرجة كبيرة، بل ويرى فيه المرء تضاربا وتقاعسا أو حتى مسرحية كما شاع الأسبوع الماضي بعد تأخر الرد الإيراني على سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية التي طالت القيادات العملياتية للفصائل الفلسطينية وكل من رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية وقائد فحسب حزب الله حسن نصر الله بعمليات فائقة نوعية دقيقة.


العمق الاستراتيجي لإيران


في العلوم العسكرية يعرف العمق الاستراتيجي بسافة أو مكاسب عسكرية على الأرض من الخط الأول للدولة إلى عمقها الجغرافي في الجهتين، وربط هذا العمق بتوظيف كوادر بشرية على مر السنين، وخلق بدائل للحكم تعتبرها الدولة وكيلا عنها بإيكال أدوات العنف وتدريب وإمدادات لتكسب أرضا تكرس بها موقعا استراتيجيا لها في هذه الدولة أو تلك.


المرشد الأعلى للثورة الإيرانية عي خامنئي قال صراحة ”إن الحضور الإقليمي يمنح إيران عمقا استراتيجيا أكبر“ معتبرا أن ” الدور الإيراني في العراق وسورية ولبنان عرقل الاستعمار الأمريكي وسد عليه الطريق“.


 وفقا لنظرية ” أم القرى“، ترسم إيران مشروعها التوسعي الإقليمي  بدء من شق ممر بري على البحر المتوسط، لتوسيع عمقها الاستراتيجي عبر خلق ارتباطات أيديولجية وسياسية وعسكرية وثقافية مع الدول سالف ذكرها أو مكونات بعينها في تلك الدول.


اغتيال السيد حسن نصر الله كان ضربة موجعة جدا لإيران وقد سبق وكتبت في هذا في مقالي السابق. في مراحل سابقة وبشكل محسوب الآن بين الفينة والأخرى تنشر إيران ميليشيات ترتبط بفيلق القدس، ذراع الحرس الثوري الإيراني. تتمترس تلك الفصائل إما لنجدة الحلفاء الإيرانيين (تدخل حزب الله في سورية) أو تربصا بالمصالح الأمريكية في المنطقة (عمليات الفصائل العراقية الموالية لإيران منا ٢٠٠٣ وهجمات أنصار الله الحوثية في مياه الخليج) أو حتى أمام إسرائيل مباشرة في لبنان وسورية، بينما تتولى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة جبهتها القتالية ضد الاحتلال. وإن جاء ذلك على هوى إيران لكنه لا يدفعها للمدد العسكري لا لقطاع غزة ولا للضفة الغربية ولا القدس المحتلتين.


نظرية ”أم القرى“ التي تتبعها إيران تحررها من القيود الجغرافية لتمتد بنفوذها إلى كل جيوجرافية أو مجتمعات بشرية في هذه الدول تحمل المذهب الشيعي عقيدة أو جهادا. لذا عمدت إيران إلى ترسيخ الارتباط المركزي بها بين الشيعة في الدول كافة  كمرجع أساسي ومرشد، إلا من بعض الفصائل المسلحة بقيادة مقتدى الصدر مثلا الذي وعى لتلك الهيمنة وتحرر منها إبان الحرب الطائفية في العراق ٢٠٠٥-٢٠٠٨.


مسارات الممر الإقليمي الإيراني


تنطلق إيران في ثلاث اتجاهات متباينة لمد خطها وهيمنتها على ممر بري مستقيم. الاتجاه أو المسار الأول يمضي نحو منطقة سنجار شمال غرب العراق مرورا بالحسكة السورية وحتى ميناء اللاذقية (تحت العقوبات الأمريكية). المسار الثاني يتبع مسار نهر الفرات حتى يصل من دير الزور وحمص إلى دمشق لينتهي بالطريق الدولي في لبنان. الثالث يبدأ من منطقة التنف الحدودية أقصى جنوب العراق وسورية ليصل دمشق وينتهي بطريق لبنان الدولي.


باختصار تبدأ المسارات كلها من سورية أو العراق وتنتهي كلها على البحر المتوسط في لبنان. تحمي هذه المسارات إن تحققت دون قطع الأراضي الإيرانية من أي مواجهة مفتوحة وتنقل خطوط الدفاع والتماس إلى عمق كل من هذه الدول، أي بإبعاد الخطر عن إيران والاكتفاء بمعارك الوكالة في دول أخرى.


لماذا لبنان؟


انتهاء المسارات الإيرانية ووكلائها في لبنان في كل مرة جاء ببروز حزب الله بقيادة الفقيد حسن نصر الله بعد حرب المخيمات في لبنان ١٩٨٢، فبعد غزة بيروت نشر الحرس الثوري قوة مصغرة للحرس الثوري قضت فيما بعد على الوجود الإسرائيلي عام ٢٠٠٠ مع انتفاضة الأقصى على الأراضي الفلسطينية المحتلة. احتفظت إيران بثقلها العملياتي والسياسي واستثمرت في حزب الله حتى بعد العقوبات ليلتحم مه فيلق القدس – ذراع الحرس الثوري أثناء الحرب في سوريا حتى عام ٢٠١٧ حيث تجسد فوز النظام والميليشيات الموالية لإيران بعد دخول روسيا حرفيا إلى ميناء طرطوس العسكري ومطار حميميم غرب سوريا.


إسرائيل وكيل واشنطن


عمليات الاستهداف لإيران وحلفائها دائما ما طالت أهدافا حيوية دون المغامرة بقتال مفتوح أو حرب تقليدية شاملة. العلميات الاستخباراتية التي انتهت مؤخرا بهجمات أجهزة الاتصال اللاسلكي المفخخة في جنوب بيروت والضاحية الجنوبية حتى اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، سبقها تفجيرُ مفاعل ناتانز النووي الإيراني في ٢٠٢٠ ومنشأة كرج في ٢٠٢٣. ردت إيران سابقا بالمثل لتطال أهدافا حيوية للمصالح الأمريكية في المنطقة باستهداف قاعدة أمريكية عسكرية في الأردن في ٢٠٢٤ مثالا.


الأسابيع القادمة ستكشف عن نوايا إيران استراتيجيا وعسكريا، هل تضحي بتعميق استراتيجيتها وتلتزم بنظرية أم القرى وإضاعة فرص سانحة لها الآن لرد مباشر على إسرائيل واستفزازها في لبنان والعراق وسورية واليمن؟ أم ستعدل الخطة لتشتبك مع خصمها وكيل واشنطن على جبهات عدة مفتوحة. بين القرارين سيتغير وجه الحرب في الشرق الأوسط لا محالة.


بالاستعانة بالمصادر:

مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية (كراسات استراتيجية) العدد ٣٥٨ .

”الخامنئي: سياسة إيران نجحت في العراق وسوريا ولبنان وهزمت أمريكا“ ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٢.

 Atlantic Council , Ray Zimmit كيف تؤثر الحرب في غزة على مستقبل محور المقاومة في إيران.

أحمد ناجي قمحة ”نحو صياغة إطار جيوستراتيجي قادر على الردع – السياسة الدولية يوليو ٢٠١٨.

محمد جواد لاريجاني، مقولات في الاستراتيجية الوطنية ”شرح نظرية أم القرى الشيعية“ ترجمة نبيل العتوم.

”قائد الحرس الثوري: العمق الاستراتيجي الإيراني قد امتد إلى البحر الأحمر“ ميدل إيست نيوز نقلا عن كراسات استراتيجية العدد ٣٥٨.



شارك

مقالات ذات صلة