آراء
تمر علينا أفكار طارئة لم نعهدها، ونشاهد أحيانا صرفات حديثة لم نألفها، فما الذي ينشر فكرة معينة أو تصرف محدد؟ وهل (الترند) طبيعي ينشأ بكل عفوية أم مصطنع ويتسبب به البعض بشكل مقصود؟
هل الترند يأتي من الخارج؟
اتسم التجار الكويتيون في القرن التاسع عشر بالذكاء والفطنة، وكانت ظروف الكويت صعبة من جهة ندرة المياه وشح التربة الزراعية. هذا ما دفعهم إلى جلب البضائع من الهند، ومع البضائع تأتي بعض الأفكار. هذا ما دفع التجار إلى التنويع في تجارتهم، وجعلهم يعيشون عصرهم الذهبي منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى.
ومع بداية الحرب العالمية الأولى بدأ التجار الكويتيون بتصدير التمر والسكر والشاي إلى الهند وموانئ شرق أفريقيا كذلك. وقد فتح الكثير من التجار الذين عاشوا في الهند بيوتهم لوجهاء الهند واستضافوهم خير استضافة، مما أدى إلى مخالطتهم والتأثر بهم. بل أن أحد التجار (جاسم الإبراهيم) بادر بإنشاء مدرسة في بومباي لتعليم الجالية العربية في الهند.
هذه المخالطة تسببت في جلب بعض الأفكار من الهند إلى المجتمع الكويتي، وجلبت معنا كذلك بعض العادات، مثل شرب الشاي، والذي دخل الكويت عام ١٨٩٢م. أتت كذلك بعض الألفاظ، مثل (التجوري) وهو الصندوق الحديدي، و(البنكة) وهي مروحة الهواء. ولم يقتصر هذا التأثير على الشاي واللهجة، بل طال العملات النقدية كذلك، فعملة (الروبية) هي عملة هندية استخدمت في الكويت حتى استقلالها! ومن التأثيرات الهندية على الكويت: تأثر المطبخ الكويتي بالمطبخ الهندي، فالأكل الكويتي تميّز باستخدام التوابل الهندية، وأصبحت الأكلات الكويتية تحمل أسماء هندية مثل البرياني واللومي والأچار. ووصل هذا التأثر بالملابس الكويتية التي تأثرت بالتطريز الهندي، وبالألحان الهندية التي حملتها الآلات الهندية المستوردة، والأثاث المليء بالأشكال الهندسية والخشبية المستوردة.
وقد تلاقح الشعبان من خلال الأفكار كذلك، فالكثير من الكتب كانت تُطبع في بومباي ثم تُوزع في الكويت. وارتاد الخليجيون الذين عاشوا في الهند مكتبة (السورفي) الشهيرة ونقلوا بعض كتبها إلى بلدانهم. ومن أوائل المكتبات في الكويت هي مكتبة الرويح، التي احتوت على كتب قادمة من دول عديدة ومنها الهند. وامتد هذا التأثير إلى تأسيس المدارس في الكويت، فقد تأسست مدرسة المباركية عام ١٩١١ من خلال تبرعات التجار المقيمين في الهند والذين كانت جهودهم كبيرة في دعم التعليم في الكويت. وقد تحدث التجار الكويتيون عدة لغات مثل الإنجليزية والهندية والفارسية، مما جعلهم منفتحين لثقافات مختلفة تجعلهم الوسيط في مثل الفكرة من الخارج ونشرها في المجتمع الكويتي.
العولمة واستنساخ الأفكار
ربما يكون الوصف الأمثل لهذا العصر هو (عصر السرعة). لا تحتاج الفكرة في عصر السرعة إلى أشهر كثيرة لتنتقل من دولة إلى أخرى كما في السابق، فهي الآن تنتقل بضغطة زر. ولا تحتاج إلى وسطاء يجلبون الفكرة، فالمشاهير والمدونات والمنصات يلعبون هذا الدور. ومن سمات الهبة اليوم أنها تتبدل بسرعة، ففي السابق كانت بعض الهبات تستمر إلى ٣٠ سنة قبل اندثارها، أما اليوم فالهبة قد تستمر لمدة أيام قبل أن تُستبدل بهبة أخرى. وفي عصر العولمة، نشهد نفس الهبة في دولة شرقية ودولة غربية بآن واحد.. فالهبة تنتشر في فضاء الانترنت وهو الفضاء الذي يجمعنا كلنا. ومن المجالات التي تدخل فيها الهبة بشكل واضح مجال (الأزياء)، وهي صناعة أصبح معيارها هو (الموضة) الحالية.. الموضة التي يصنعها مصمم الأزياء أو المشهور. أما في المجال الإعلامي، تكمن الهبة في تقليد برنامج واستنساخه بعدة لغات حول العالم.. مثل العديد من مسابقات التحدي مثل أراب آيدول ومن سيربح المليون. في الزمن الحديث تدخل الهبة إلى المجتمع بسرعة فائقة، وتكون عادة من خلال ترويج المشاهير والمدونين وصناع المحتوى للفكرة أو المنتج أو السلوك إلى أن يتبناه الناس ويتأثروا به. يبقى السؤال: لماذا يتبع الناس الترند بغض النظر عن جودتها أو أهميتها؟ علم النفس لديه بعض التفسيرات.
ماذا يقول علم النفس؟
يفسر علم النفس ظاهرة اتباع الهبة بشكل أعمى من خلال عدة تفسيرات، أحدها: أن الإنسان يميل إلى الانضمام إلى الجماعة، فعندما يشاهد أمرا منتشرا بين الناس فهو يلحقهم ليغذّي حاجته الفطرية إلى الانضمام إلى جمع معين. أما التفسير الأشهر، فهو من خلال متلازمة (الخوف من التفويت) fear of missing out وهي من الظواهر التي تسبب بها هذا العصر. يخشى الإنسان الحديث بأن تفوته مناسبة، هامة كانت أو هامشية، وهذا يجعله يدمن تصفح تطبيقات مواقع التواصل دون توقف. وقد تم تسجيل هذا المصطلح في قاموس أوكسفورد عام ٢٠٠٦م. هذه المتلازمة هي التي تدفع الإنسان إلى تبني الهبة بغض النظر عن اقتناعه بها، فهو يخاف بأن تفوته السلعة التي يتمتع بها جميع العالم إلا هو، ويخاف أن لا يتبنى الفكرة التي تبناها كل الناس إلا هو.. فإن تبناها شعر بالانتماء للمجموعة وسلامته من الرفض الاجتماعي.. وإن لم يتبناها شعر بالحزن والإحباط. لهذا الشركات الكبرى تملك موظفين مهمتهم متابعة الترند ومواكبته، وأحيانا صنعه. هذا ما يجعل بعض الهبات مصنوعة، بينما بعضها الآخر عفوي وغير مقصود. وفي جائحة كورونا، كانت الهبة حاضرة من خلال انتشار تطبيقات محددة مثل التيك توك، وارتفاع استخدام تطبيقات البث المرئي مثل الزوم.
الخاتمة
من الطبيعي أن تنتقل الأفكار بين الدول، وأن تأخذ الشعوب عادات غيرها. وليس مستغربا أن تتشابه الموجات بين الناس من أفكار وملابس وأكلات وسلع بين مختلف الدول، ففي السابق كانت الهجرات والرحلات تساهم بنقل الترند من أرض إلى أخرى بزمن طويل نسبيا، أما اليوم فالترتد يصنعه أمريكي ويتبناه العالم كله. الخطورة تكمن في أن يصبح الترند معيارا في حد ذاته ومن يتخلف عنه يُرفض اجتماعيا. ولا يكمن الحل في ترك الانترنت أو الانعزال الذاتي أو اعتزال كل ما يصبح ترند، فالدارج قد يكون بوابة للتعلم من الحضارات المختلفة. يكمن التوازن في النظر إلى هذا الجانب بنظرة متوازنة، تأخذ النافع منها وتترك الضار، دون تقديس أو تحقير. بهذا يتحقق التوازن النفسي عند الإنسان. ويتخلص من متلازمة الخوف من التفويت والتي أصابت الكثير ممن يعيش بهذا العصر.