مدونات
أبو البقاء الرندي شاعر أندلسي، عاصر سقوط الدولة الأندلسية، فهو شاهد عيان على المآسي التي أعقبت قبل سقوطها إبان مقاومتها وبعد سقوطها، وعلى الخذلان الذي شعر به أهل كل المدن الأندلسية، حيث إن استغاثاتهم لم تصل إلى أسماع ذوي النخوة وإخوان العقيدة، رغم بعض محاولات الدولة العثمانية، والتي كانت آنذاك في بداية بزوغ نجمها كدولة إسلامية قوية لنصرتهم، إلا أن تكالب أمم أوروبا بشرقها وغربها عليها وإضعافها بشن حروب متتالية بلا هوادة، وتلك من ضمن الأسباب الرئيسية التي حالت دون انقاذ أهل الأندلس، وأعاقت تحرك العثمانيون نحو إرجاعها لحضنها الإسلامي.
أبو البقاء الرندي فصَّل الأحداث الجسام التي تعاقبت على الدولة الأندلسية، وتقاعس حكامها أمام اندفاع القشتاليين للسيطرة على الأندلس وإخضاعها للتاج المسيحي الكاثوليكي. قصيدته تحوي ٤٣ بيتاً، تعد من أجمل المراثي التي قيلت في الأندلس، وسميت بنونية أبو البقاء الرندي، و نظراً لأن كل بيت ينتهي بحرف الروي النون، ففي طليعة القصيدة يجمل الشاعر الحال الذي آلت إليه الأندلس، حين يقول:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
وعطفاً على نفس البيت، يبين الرندي أن حال الإنسان لن يبقى على ما هو عليه، فالاغترار بطيب الحياة ويسرها وحوزه كل ما يصبو إليه، لا يعني بالضرورة أنه ملك كل شيء، قد يواجه صعوبة لا تخطر على باله، وكأن به يهز وجدان وتفكير أولئك الذين غرتهم الحياة وأمنوا تقلباتها، وركنوا إلى الراحة والدعة، فأخذ الحيطة والحذر واجب فالظروف ليست في صالحهم دوماً.
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
يؤكد مرة أخرى على حقيقة أن حال الإنسان يتغير لا يوجد كمال في هذه الدنيا، فيوم يسر فيه ويوم يساء فيه، وما سجله الرندي في البيت نابع من مشاهداته وما سمع به، من النكسات التي واجهها أهل الأندلس وقتما هجم الأعداء واستولوا على مدن الأندلس واحدة تلو الأخرى، ويحذر من أن يؤول مصير المتهاونين بقيمة النعمة التي بين أيديهم، من زوالها بغفلة منهم.
كَم يَستَغيثُ بِنا المُستَضعَفُونَ وَهُم
قَتلى وَأَسرى فَما يَهتَزَّ إنسان.
في هذا البيت يصور مشهد خذلان أهل الأندلس أفضل تصوير، وكأنه ينطق بحال أهل غزة في أيامنا هذه، يوضح حقيقة مؤلمة أن كثيراً من الأندلسيين قد أرسلوا استغاثاتهم، لإنقاذهم من هجمة العدو، فاستخدم كلمة كم وهي كلمة استفهامية، لتمييز الأعداد وللدلالة على الكثرة، أي كثرة الناس الذين تعرضوا للأسر والقتل، نداءاتهم لم تسعفهم لانتشالهم من المأساة التي حلت بأرضهم وأهلهم.
ماذا التَقاطعُ في الإِسلامِ بَينَكُمُ
وَأَنتُم يا عِبَادَ اللَهِ إِخوَان.
هنا يستنكر الرندي الخلاف الذي استشرى بين المسلمين، والذي بطريقة أو بأخرى كان ولازال العقبة الكأداء لمواجهة الأعداءو دحرهم وحماية بلاد الإسلام، فالنزاعات والصراعات بين أهل العقيدة الواحدة، السبب الرئيسي لضياع الأندلس وبلاد إسلامية أخرى، وضياع حقوق المسلمين وتمكين الأعداء الذين يتربصون بالأمة الإسلامية، وانتظار الفرصة السانحة للانقضاض على بلاد الإسلام.
بِالأَمسِ كانُوا مُلُوكاً فِي مَنازِلهِم
واليوم هُم في بِلادِ الكُفرِ عُبدانُ
برع الشاعر الأندلسي الرندي، في تصوير حال أهل الأندلس أيما براعة، فأصحاب الأرض عاشوا كالملوك في موطنهم، وحينما غزاهم الأعداء صاروا عبيداً يتحكم بهم العدو، ويسيمهم الذل والهوان، في البيت الشعري يدعو الشاعر إلى تخيل الوضع المزري الذي آل إليه أهل الأندلس من امتهان لكرامتهم، فبعد أن كانوا يرفلون بالحرية ويمرحون ويسرحون في ضياعهم ويسترخون في قصورهم، باغتهم الأعداء وسلبوهم كل تلك النعم، واستعبدوهم، وتلذذوا باهانتهم وتعذيبهم.
وإذا رجعنا قليلاً إلى منتصف القصيدة، يطالعنا البيت الشعري التالي:
يا غافِلاً وَلَهُ في الدهرِ مَوعِظَةٌ
إِن كُنتَ في سنَةٍ فالدهرُ يَقظانُ
نجد أن الشاعر يجدد دعوته إلى ضرورة الإنتباه من أن تأخذ الإنسان غفلة، ويعتقد أن الدنيا تدوم له، من غير أن يتذكر أن الدنيا وما فيها زائل، فعليه أن يأخذ العظة والعبرة من أحوال الأمم السابقة، ويعتبر من صروف الماضي وحوادثه ليتعلم ويستفيد.
أَعِندكُم نَبَأ مِن أَهلِ أَندَلُسٍ
فقد سَرى بِحَدِيثِ القَومِ رُكبَانُ
لم يعد أحد آنذاك لم يتسرب إلى مسامعه أو علمه، بما آل إليه حال أهل الأندلس، أخبارهم تناقلتها البلدان، ولم يبق إنسان إلا ودرى بما ألمَّ بالأندلس وأهلها.
يا رُبَّ أمٍّ وَطِفلٍ حيلَ بينهُما
كَما تُفَرَّقُ أَرواحٌ وَأَبدانُ
وَطفلَة مِثلَ حُسنِ الشَمسِ إِذ برزت
كَأَنَّما هيَ ياقُوتٌ وَمُرجانُ
يَقُودُها العِلجُ لِلمَكروهِ مُكرَهَةً
وَالعَينُ باكِيَةٌ وَالقَلبُ حَيرانُ
في الأبيات الثلاثة الآنفة يشخص شاعرنا حال المستضعفين من أهل الأندلس، الذين أجبروا على ترك دورهم وبساتينهم وأهلهم وأحبائهم، وساقهم العدو بلا رحمة إلى مصير مجهول، ليس لديهم حيلة سوى ذرف الدموع، والاستسلام لحكم الغرباء الغازيين، الذين تجبروا بالضعفاء وفرقوا الأم عن ابنها، واستعبدوا الأطفال والنساء والرجال بلا أدنى شفقة أو وخزة من ضمير.
لِمثلِ هَذا يذوبُ القَلبُ مِن كَمَدٍ
إِن كانَ في القَلبِ إِسلامٌ وَإِيمانُ
يختم أبو البقاء الرندي قصيدته بخلاصة تجمل كل المعاني التي حملتها قصيدته، بوصف مشاعر الألم والحسرة من وحي الظلم والجور الذي أصاب أهل الأندلس، والقسوة التي عاملهم بها الأعداء، والشطر الثاني من البيت يغلفه بعتاب ولوم، للأمة الإسلامية التي تركت أهل الأندلس لوحدهم، ليتفرد بهم عدو لئيم، ولم بهبوا لنصرتهم، إلا من مشاغلات لم تؤت أكلها ولم تجن ثمارها، فتخاذل أهل الإسلام حكم بضياع الأندلس، فذاقوا مرارة التخلي عنهم، وكأن غزة تتجسد بآلامها وأوجاعها أمام ناظري الرندي، رغم أنه كان قبل العدوان على غزة بقرون طويلة، قصيدته سابقه لزمانها، تفرس في فجيعة الأندلس فجاء بعدها ألف أندلس. بلا شك أن قصيدة الشاعر الأندلسي أبو البقاء صالح الرندي، تحوي عبر ومواعظ وحكم، تروي ماضي وحاضر الأمة الإسلامية.